الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الخبز واستقرار المجتمعات مقال بقلم د. زيد بن محمد الرماني، يستعرض فيه لأشد الأزمات الاقتصادية التي مرت على المسلمين عبر مراحل التاريخ المختلفة.
من الطبيعي أن تشتدَّ أهمية الخبز والحاجة إليه إبَّان الأزمات الاقتصادية، التي لم تقتصر على العالم الإسلامي وحسب، بل شملت أيضًا جميع الأمم والشعوب، وبخاصَّة في العصور الوسطى. وقد يُعزى ذلك إلى أنَّ الوسائل المتوافرة لمواجهة تلك الأزمات كانت محدودة، وسيطرة الإنسان على بيئته المناخيَّة وما يتعرَّض له من جفافٍ وقحط، أو فيضانات وأوبئة وطواعين كانت معدومةً أيضًا، فضلاً عن كثرة الحروب والفتن، وقلَّة التعاون بين الأمم والشعوب وصعوبته في ذلك العصر للتغلُّب على مثل تلك الكوارث والأزمات.
والواقع أنَّ ولاة الأمر كانوا يهتمُّون بمراقبة الوضع الاقتصادي في أمصارهم وولاياتهم؛ باعتباره أهم عاملٍ في الاستقرار الاقتصادي والمالي للدولة.
يقول د. إحسان صدقي العمد في كتابه (الخبز في الحضارة العربية الإسلامية): وقد واجه العالم الإسلامي أزمات اقتصاديَّة في فترات عديدة منذ صدر الإسلام. ثم ضرب لذلك مجموعة من الأمثلة والنماذج.
فقد واجهت المسلمين في المدينة المنورة بعد الهجرة ظروفٌ اقتصادية ومعيشة صعبة؛ بسبب الموقف المعادي لهم والحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب، الذي فرضته قريش وحلفاؤها من القبائل العربية على المدينة؛ حيث بلغت الشدَّة في الناس حدًّا جعلهم يعتزمون أكل الحُمُر الإنسيَّة، حتى أتاهم النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- فنهاهم عن أكلها، وكفأ القدور على وجوهها. ولم تبدأ أحوال المسلمين المعيشيَّة في التحسُّن إلَّا بعد غزوة الخندق وفتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة.
ومثال آخر، ما كان في عام الرمادة سنة 18هـ، في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ واجه الجفاف والقحط والجوع المسلمين؛ نتيجة انحباس الأمطار، فانعدم الخبز مع سائر الأقوات، واضطر بعض الأعراب إلى أكل اليرابيع والجرذان. ومن ثَمَّ، اتخذ عمر رضي الله عنه سلسلة من الإجراءات للتخفيف من وطأة تلك الأزمة، من بينها المبادرة إلى طلب مواد التموين والإغاثة من الأمصار، وإعداد وجبات غذائية عامة للناس بالمواد الغذائية المتبقية لديه، وتأخير جمع الزكاة والطلب إلى جميع المسلمين إلى التوجُّه لله بالاستغفار والدعاء ليرفع هذه الشدة.
وفي عام 70هـ، تعرضت مكة المكرمة لأزمة اقتصادية شديدة، قلَّتْ فيها الأقوات، وارتفعت الأسعار.
وقد ذكر المقريزي -رحمه الله- في كتابه (إغاثة الأمة بكشف الغمة) مجموعة من الأزمات الاقتصادية التي وقعت بمصر الإسلامية، ابتداء بالشدة التي وقعت عام 87هـ. وتوالت الأزمات في مصر بعد ذلك في عدة سنوات خلال حكم الدولة الإخشيدية، وذلك في الأعوام التالية 338هـ، 341هـ، 343هـ، 352-360هـ. وتعزى هذه الأزمات إلى أسباب أهمها نقص مياه النيل عن حده الأدنى، وكثرة الفتن الداخلية، والحروب الكثيرة التي وقعت بين الجند والأمراء بعد وفاة كافور الإخشيدي، وانتشار الوباء وتفشي الأمراض، التي قضت على كثير من الناس، حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم. وقد رافق هذه الأزمات ندرة في الأقوات وفي مقدمتها الخبز، وارتفاع كبير في الأسعار وثورة الرعية في بعض السنوات؛ احتجاجًا على الغلاء الفادح.
وتحدِّثنا الحوليات عن كثرة الأزمات الاقتصادية والمجاعات بمصر في العصر الفاطمي، وبخاصة في عهد الحاكم (ت 411هـ) والظاهر (ت 437هـ)، والمستنصر (ت 487هـ). وبلغت ذروتها إبَّان الشدة المستنصرية، التي استغرقت سبع سنين (457-463هـ). وتضافرت عدة أسباب وراء هذه الأزمات، من بينها نقصان مياه النيل، وضعف الدولة واختلال أوضاعها الاقتصادية، وإقبال بعض التجار والناس على ادّخار الغلال واحتكار الأقوات.
وقد أسهبت كثير من المصادر في ذكر الأهوال والمعاناة التي قاسى منها الشعب في مصر إبان الشدة المستنصرية، بل إنها شملت -أيضًا- أصحاب المال والسلطان؛ إذ انعدمت الأقوات وتفشى الجوع، حتى أكل الناس القطط والكلاب والموتى والأحياء خلال هذه الشدة، فندر الخبز، وصار الرغيف يباع في المزاد كبيع التُّحف.
وكثرت الأزمات الاقتصادية والمجاعات في عهد الدولة الأيوبية، ثم دولة المماليك، بما كان يرافقها من انعدام الخبز ومعظم الأقوات وارتفاع في الأسعار مما يطول تعقبه في حوليات تلك العهود.
ويعتبر المقريزي -رحمه الله- أوضح وأشمل مَنْ تصدَّى لتعليل أسباب هذه الأزمات والمجاعات والمحن، فذكر من بين العوامل المسببة ما يلي:
1- الأسباب السياسيَّة؛ وتتلخَّص في ضعف الدولة وغياب السلطة، وعدم معالجتها الأمور الاقتصادية بشكل صحيح، وتركها الحبل على الغارب بالنسبة للمضاربين والتجار.
2- الأسباب الاقتصاديَّة والماليَّة؛ وأهمها استئثار معظم السلاطين والأمراء باحتكار غلات المحاصيل الزراعية والمتاجرة فيها وخزنها في شونهم، بانتظار نفاد الحبوب من الأسواق.
3- الأسباب الطبيعيَّة؛ ممثلة في نقص مياه النيل؛ نتيجة لدورات انحباس الأمطار التقليدية.
يقول أحمد السيد الصاوي في كتابه (مجاعات مصر الفاطمية): إنَّ هذه المجاعات أثَّرت على الحياة الأمنيَّة في البلاد؛ حيث اضطرب الأمن، وانتشر السلب والنهب، كما تأثَّرت الحالة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة؛ من حيث تناقص إيرادات الدولة وتزايد فقر الفلاحين، واضطرار بعضهم إلى بيع ممتلكاتهم الزراعيَّة وهجر الريف.
وأخيرًا، فإنَّ الخبز كان وما يزال العامل الحاسم والمؤثِّر الدال على استقرار المجتمعات في حال توافره، وعدم استقرارها في حال ندرته وغلاء أسعاره أو انعدامه.
كما أنَّ الخبز يشكل محور الأمن الغذائي الذي بات يهدد معظم الدول النامية، حيث تشير الدراسات إلى أن العالم الإسلامي يستورد معظم موارده الغذائية من الخارج وفي مقدمتها القمح، بعد أن كان في القرن الماضي مصدِّرًا لها.
والأمل في الله كبير، في أن يبذل العالم الإسلامي جهودًا حثيثة ومنسقة؛ لتحقيق أمنه الغذائي، وفي مقدمته الخُبْز.
التعليقات
إرسال تعليقك