ملخص المقال
كيف نحيا بالقرآن مقال بقلم الدكتور عبد الرحمن المحمود، يوضح حال السلف مع القرآن الكريم ووسائل عودة منزلة القرآن ومكانته، فكيف نحيا وأمة الإسلام بالقرآن؟
كيف كان حال السلف مع القرآن؟ وكيف أصبحت حالنا معه؟ ولماذا ضعفت منزلة القرآن في نفوسنا وصارت صلتنا به أقل من صلتنا بالجرائد ووسائل الإعلام؟
ما الذي تغيَّر حتى صرنا إلى هذه الحال؟ هل تغيَّر القرآن؟ أم تغيرنا نحن في عيشنا وحياتنا مع القرآن؟ وما مقياس الأمم في رِفعَتِها وضَعَتِها وفي عزِّتها وذُلِّها؟
روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي r قال: "إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين"[1].
وهذا يشمل الفرد والقوم، ويشمل أيضًا الأمة؛ فمن أقبل على القرآن من هؤلاء نال الرفعة والمكانة، ومن أعرض عنه عوقب بالذلة والمهانة.
وبهذا الميزان النبوي للقرآن عرف سلفنا الصالح -رحمهم الله تعالى- مكانة القرآن ومنزلته وأثره، فجعلوا القرآن عماد حياتهم، تلاوةً وتعلُّمًا وتعليمًا وعملاً؛ فالصغير ينشأ بتعلُّم القرآن، والأسرة تربَّى بالقرآن، والعلم يُفتَتَح بتعلم القرآن وحِفْظِه، ومدارس العلم كلها أساسها وعمادها القرآن، ومساجدهم معمورة بالقرآن، وعباداتهم وصلواتهم، ومجالسهم وسَمَرهم، وأسفارهم وتنقلاتهم، وجهادهم وفتوحاتهم... كل ذلك إنما عماده القرآن، أما أحكامهم وقضاياهم وعلاقاتهم، فلا تخرج عنه أبدًا.
لقد كانت -حقًّا- أمة تعيش وتحيا بالقرآن؛ فكان من أمرها ما كان، وهذه بعض صور تعامل سلفنا الكرام مع هذا الكتاب العزيز:
1- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل؛ وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار"[2].
2- وعن أبي الأحوص الجشمي قال: إن كان الرجل ليطرق الفسطاط طروقًا -أي يأتيه ليلاً- فيسمع لأهله دويًّا كدوي النحل (أي بالقرآن). قال: "فما بال هؤلاء يأمنون، ما كان أولئك يخافون؟"[3].
فهذه حالهم وصفتهم مع القرآن، وهي صفة عامة لأمصار المسلمين؛ ولذا كانوا يأمنون ولا يخافون. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن هذا القرآن مأدبة الله؛ فمن دخل فيه فهو آمن"[4].
3- وعن الحسن البصري -رحمه الله- أنه قال: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفِّذونها بالنهار"[5].
وهكذا القرآن: عبادة وذكر لله تعالى، مع تدبر وتفهُّم، يعقبه تطبيق وعمل.
4- وحامل القرآن هو حامل لراية الإسلام في كل ما تحتاجه هذه الراية من عزم وقوة، وجِدٍّ وفتوة. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيمًا للقرآن"[6].
5- أما أحوال السلف مع القرآن تدبرًا وخشوعًا فأمر معروف؛ حتى إن الإمام التابعي الثقة قاضي البصرة زرارة بن أوفى العامري الحرشي (أبو حاجب البصري) الذي روى له الجماعة وكان من العبَّاد، روى بَهز بن حكيم قصة وفاته فذكر أنه أمَّهم في الفجر في مسجد بني قشير، فقرأ حتى بلغ قوله تعالى: {فَإذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: ٨، ٩] فخرَّ ميتًا. قال بهز: فكنت فيمن حمله.
لقد كان القرآن عند سلفنا أساسَ الحياة، وأساس المناهج لا يزاحمه أي علم أو أي منهج آخر، وكانت العلوم الأخرى كلها تأتي بعده تبعًا.
فالذي يدخل في الإسلام، كان أوَّل ما يتعلمه القرآن.
والوفود التي كانت تفد على رسول الله r، كانت تتعلم القرآن وتأخذ معها ما تستطيعه منه.
وكان مقياس الرجال ومعرفة أقدارهم، تبدأ بمدى معرفتهم وحفظهم للقرآن.
فهذا رسول الله r يقدِّم الشاب الصغير عمرو بن سلمة على مشيخة قومه وكبارهم، ليقول له بعد أن عرف أنه أحفظهم للقرآن: "اذهب فأنت إمامهم"[7].
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو خليفة جعل شُوَّاره من القراء، وأدخل معهم عبد الله بن عباس -على صغره- لتميُّزه بحفظ القرآن والعلم به؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان القراء أصحابَ مجلس عمر -رضي الله عنه- ومشاورته كهولاً كانوا أو شبابًا"[8].
وحِفْظُ القرآن كان أول ما يُبدَأ به في تعليم الصغار، وحِلَق الشيوخ كانت تبدأ بالقرآن بالنسبة لطلاب العلم. وعيب كبير أن يبدأ طالب علم بفن من الفنون الشرعية قبل تعلم القرآن وحفظه. ومحفوظات الطلاب كانت تتركز في البداية على القرآن.
والخلاصة: أن التعليم في الأمة الإسلامية كلها كان أساسه وعماده القرآن وعلومه وتفسيره.
هذا حال سلفنا مع القرآن؛ فقارِنوه بأحوال أمة الإسلام في عصرها الحاضر، فستجدون سؤالاً يثور في نفوسكم: ولكن كيف ضعفت هيبة القرآن في نفوسنا وحياتنا ومعاملاتنا؟ وهل هناك وسيلة أو وسائل يمكن أن تعود بها تلك المنزلة لهذا القرآن العظيم؟
والجواب: نعم! هناك وسائل كثيرة؛ لأن القرآن باقٍ ومحفوظٌ لم يتغير ولن يتغير مهما تغيرنا نحن أو حاول أعداؤنا أن يغيرونا أو يصرفونا عنه.
وإنِّي ذاكرٌ عددًا من المسائل والقضايا حول هذا الموضوع الكبير: كيف نحيا وأمة الإسلام بالقرآن؟
أولاً: المعرفةُ والإدراكُ الحقيقي لمنزلةِ هذا القرآنِ، وأنه كلامُ الله تعالى لا يُقاسُ بكلام البشرِ مهما كانوا، وينبني على هذا أمرٌ مهم، ألا وهو الثقةُ بنصوصِهِ ثقةً مطلقةً، والتصديقُ الجازمُ بكل ما جاء به من حقائقَ وأحكام، تتعلق بالفرد وبالأمة في جميع شئونها العبادية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية والتشريعية...
فلا مجال لصوت أنْ يعلو فوق القرآن، ولا لمتعالمٍ أنْ يتعالمَ على القرآنِ، فيعملَ في نصوصِه تحريفًا وتعطيلاً، أو أن يُشكِّكَ في شيءٍ منْ حقائقِ القرآن ومعانيه، أو أن يأخذَ منه ما يَشتهي ويتركَ ما خالفَ من هواه، أو أن يجعلَه عِضِين مفرَّقًا يؤمنُ ببعضِه ويكفرُ ببعضِه الآخرِ؛ وإنما هو التسليم الكامل لله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} [النساء: 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا} [النساء: 78].
وهذا التسليم لا يخاطبُ به فئة معينة كالحكام -مثلاً وهم مخاطبون- وإنما يخاطب به كل فرد في خاصة نفسه وحياته وعباداته ومعاملاته.
وينبغي لكل مسلم أن يعلمَ أن هذا القرآن كما وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (فيه نبأ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدكم، وحُكْمُ ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: ١، ٢].
من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم)[9].
إن من المؤسف أننا قد نصدِّق بهذا نظريًّا، لكننا في الحقيقة نكاد نشكك فيه عمليًّا. وهذا من أخطر أمراضنا، وهذا يمثل التباين بين النظرية والتطبيق، والقول والعمل، والدعاوى والحقائق في الواقع.
وهناك أمر آخر، وهو أنه قد يظن ظانٌّ أن بعض الحقائق التي جاءت في القرآن، مثل وعد الله بنصرِ المؤمنين، أو كتابة الذلة على اليهود، ونحو ذلك قد تخلفت، فتضعف ثقته بالقرآن، ويظن أنه محتاج إلى أن يتأوَّل أو يحرِّف النصوص القرآنية لتتوافق مع الواقع.
وهذا خطأ كبيرٌ يؤدي إلى أن يقلب المسألة؛ بحيث يجعل ما يراه في الواقع هو الأصلَ وما جاء في القرآن تابعًا له.
إن الواجب أن نوقن يقينًا تامًّا أن ما جاء في القرآن حق وصدق لا شكَّ فيه أبدًا، وأن تخلُّف وعد الله أو ما يقرره من حقائق تتعلق بالأمم أو بمخالفي شرع الله وأحكامه من هذه الأمة أو من غيرها من الأمم، إنما هو لتخلف الأسباب التي ذكرها الله تعالى مثل تخلِّي المسلمين عن دينهم، أو عدم قيامهم به على الوجه الأكمل، أو وقوعهم في الذنوب والمعاصي التي تجعلهم يستحقون العقوبات... وهكذا.
إن خلاصة هذا الأصل -الذي بدأنا به- أنه يقومُ على أن جميع ما جاء به القرآن حق وصدق لا شك فيه، وأن المسلم -وهو يقرأ القرآن ويتدبر معانيه- عليه أن يستحضرَ ذلك في كل آية، وفي كل قصة، وفي كل حكم، وفي كل أمر وفي كل نهي، وفي كل توجيه جاء به هذا الكتاب الكريم.
إن حقائق القرآن كثيرة، وهي ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال.
وإليكم نماذج فقط من هذه الحقائق:
- قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].
- وقال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: ١٤١].
- وقال تعالى عن اليهود: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112].
- وقال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧].
- وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: ١١].
- وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].
- وقال تعالى عن الربا: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].
المصدر: مجلة البيان.
روابط ذات صلة:
- السلف والقرآن
- تدبر القرآن والنهضة
- تدبر القرآن فريضة الأمة
- القرآن في رمضان
- الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
- الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم
- كيف تحفظ القرآن د. راغب السرجاني
- حياة مع القرآن في رمضان
[7] لم أقف عليه، والذي وقفت عليه ما ثبت في صحيح البخاري (4302)، وسنن أبي داود (587)، والنسائي (2/71)، وأحمد (5/3، 71)، ولفظه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا حضرت الصلاة فَلْيُؤذِّن أحدكم، وَلْيؤمَّكم أكثركم قرآنًا، فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآنًا من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين) الحديث.
التعليقات
إرسال تعليقك