ملخص المقال
لم يجتمع لأحدٍ من الصحابة من الفضائل ما اجتمع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه من فضل الصحبة والصديقية.. فما الشيء الذي وقر في قلب أبي بكر؟
لم يجتمع لأحدٍ من الصَّحابة من الفضائل ما اجتمع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، من فضل الصُّحبة والصّدّيقيّة، الأمر الذي نوّهت به كثيرٌ من الآيات القرآنية، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الحجرات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، مقروءًا مع قوله تعالى من سورة الليل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17]، وهي الآية التي ذهب كثيرٌ من المفسرين إلى أنّ المقصود بها هو أبو بكر رضي الله عنه؛ فينتج من ذلك أنّ أبا بكر هو أكرمُ هذه الأمة بعد نبيّها عليه الصلاة والسلام.
وقد قال أحد كبار التابعين بكر بن عبد الله المزني، في تفسير هذه المكانة أنّه: "ما فَضَلَ أبو بكر النَّاسَ بكثرة صلاةٍ ولا بكثرة صيامٍ، ولكن بشيءٍ وقر في قلبه". فذلك هو الإيمان؛ ولذلك كان وصفُه بل وتسميته بالصّدّيق؛ فالعبرة ليست بكثرة العمل، ما دام أن الإنسان قد نهض بالواجبات، واجتهد في المندوبات، بل العبرة تكمن في هذا القلب وسلامته وطهارته؛ مصداقًا لقوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
ولهذا بلغني قبل يومين عن أحد مشايخنا المعروفين، قوله فيما معناه: أنّه قد صار جُلُّ، بل كلُّ اهتمامه موجَّهًا إلى قلبه، قائلاً: لا يمكنني ضبط قلوب الناس ومشاعرهم، وتوجيههم ليكونوا بحسب ما أرغب، لكن يمكنني أن أجتهد في ضبط قلبي ومشاعري؛ لتكون بحسب مراد الله ورسوله، وعندئذٍ تنضبط كلّ الأمور بإذن الله عز وجل؛ مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب».
فلذا حاز أبو بكرٍ تلك المرتبة التالية لمرتبة النبوة، ألا وهي مرتبة الصديقية، حازها بهذا الشيء الذي وقر في قلبه، وهو الإيمان.
والسؤال هو: لماذا لا يكون هذا الحديث داعيًا ودافعًا لنا إلى الاجتهاد في التّأسّي والاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه، وبسائر الصحابة عمر وعثمان وعليٍّ، كلٌّ فيما تميّز به من الصّفات وعُرف به؛ مصداقًا لقوله تعالى في سورة آل عمران، بعد أن ذكر عددًا من الأنبياء والمرسلين، ثم قال معقّبًا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، والصحابة -رضي الله عنهم- إنّما ساروا في ذات الطريق الذي سار فيه الأنبياء والمرسلون.. فلماذا نكتفي بقراءة سيرهم وتاريخهم، دونَ أن نجتهد في ترسُّم خُطَاهم، والاهتداء بالنُّور الذي اهتدَوا به؟
وهذا يقودني إلى طرح تساؤلاتٍ يفرضها واقعنا الذي نعيش فيه اليومَ: لماذا يُنفق بعض الشباب الملتزم زهرة أوقاتهم، في متابعة الأحداث والأخبار والقضايا عبر وسائل الإعلام الحديث؟ وهذا أمرٌ طيّبٌ؛ إن كان بدافع القيام بالدعوة، ومعرفة الواقع الذي يعيش في خضمّه الداعية، ولكنّا -للأسف- نجد كثيرًا من هؤلاء مقصّرين في الاقتداء بهَدْي الصحابة رضي الله عنهم. ومن أدلّ الدلائل على ذلك أنّك لا تجدهم يُنفقون من أوقاتهم في سبيل تلاوة القرآن ومذاكرته والتّدبر فيه، إلا نزرًا يسيرًا من هذا الوقت الذي يُنفقونه مع الإنترنت وغيره، بل لا يكاد أحدهم يلتزم بتلاوة حزبه من القرآن..!
فهذا مؤشّر على خللٍ كبيرٍ، ما أجدر العقلاء بالانتباه إليه، والعمل على تجاوزه!
يُحدّثني أحدُ المشايخ الّذين فتح الله عليهم بحفظ كلام الله، فيقول: زرتُ وصاحبٌ لي رجلاً مريضًا منذ عدة سنوات، فسأل هذا الرجل المريض صاحبي: في كم تختم القرآن؟ فقال له صاحبي: في كلّ عشرة أيامٍ مرّةً. فقال له متعجّبًا: في عشرة أيامٍ كاملة، ألا تخاف أن يُنتزع القرآن من صدرك؟! ألا تخشى أن تكون ممّن يهجر القرآن؟! وأخذ يكرّرها..
يقول ذلك الشيخ: فخشيتُ أن يسألني؛ لأنّي لا أختمه إلا كلّ أسبوعين مرّةً!
فماذا إذن يُقال لأولئك الّّذين يمرُّ عليهم شهرٌ كاملٌ، بدون أن يختموا القرآن؟ بل ربما أكثر من ذلك كما حدّثني أحد حفّاظ القرآن عن نفسه، فكيف بغير الحافظين؟! وهم بالمقابل عاكفون على ذلك، فيما قلّ نفعه وكثر ضرره. ولا ريب أنّ حصانتهم في هذه الحالة، على ما يُبثّ عبر هذه الشبكة من السّموم تكون واهيةً، وبالتالي يكون تبريرهم لبقائهم عاكفين على الإنترنت، بأنّهم يستثمرون هذا الوقت في الدّعوة وما إليها - دعوى عريضةً تفتقر إلى البرهان.
فلنراجع أنفسنا، ونقتدِ بمن أمرنا الله عز وجل بالاقتداء بهم، ولنقرأ من سيرهم، ولنغترف من سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تلك المعاني التي جعلته يتّصف بوصف الأتقى، ولا ريب أنّ من جملتها تعهُّدَ القرآن بالرّعاية والتدبّر والعناية، ومن أدنى الدرجات في ذلك: أن يلتزم المسلم بتلاوة القرآن وتدبّره مرّةً واحدةً كلّ شهر، والعمل قرين التّدبّر.
وتأمّلوا هذا الحديث العظيم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديّين من بعدي، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ». فمن أخذ به، هُديَ ونجا في خضمّ هذه الفتن التي تزلزل القلوب.
ألا رضي الله عنهم، ووفّقنا إلى اتّباع هديهم، واحتذاء سبيلهم، وحشرنا يوم القيامة في زمرتهم.
المصدر: موقع المسلم.
التعليقات
إرسال تعليقك