ملخص المقال
يعد شهر رمضان حبلا مد من السماء لأهل الأرض، فما الغاية من الصوم؟ وكيف يكون الصيام مدخلا مهما لصناعة الذات؟
حبلٌ مُدَّ من السماء لأهل الأرض، ومنحة وفرصة إلهية ربانية من رب العباد لعباده.. تنتشلهم مما هم فيه من ضعفٍ وفقرٍ، وذُلٍّ وقهرٍ، ومعاصي وذنوب، وهمٍّ وغمٍّ.. إنه شهر رمضان المعظَّم؛ شهر القرآن والصيام، شهر الجود والكرم، شهر الصفح والغفران، شهر النفحات والرحمات والبركات، شهر التضحيات والبطولات، شهر الفتوحات والانتصارات.. إنه شهر الله وحبله الممدود، "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به".. كل ثانية فيه قد تحمل ميلادًا جديدًا للفرد وللأمة جمعاء.
فليس حديثنا هنا عن شهور تقليدية ولا عن أيام عادية، إنما حديثنا عن شهر وُصفت أيامه وصفًا يُشعر بسرعة الانقضاء وقرب الرحيل؛ حيث قال الله U: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183، 184]. وفي الآن نفسه وُصفت هذه الأيام المعدودات بأنها أفضل أيام السنة، بل إن ليلة واحدة منها تفوق في الأجر والثواب ألف شهر مجتمعين!! وهو ما جعل أمين السماء جبريل u يدعو بالخيبة والخسران على من ضاعت منه هذه الأيام، وجعلت رسولنا الكريم محمد r يُؤمِّن على هذا الدعاء، في إشارة قوية إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر منذ البدء من أن تتفلَّت هذه الأيام القلائل دونما الاغتراف منها، أو دونما تحصيل المقصود الذي جاءت من أجله.. قال r: "إن جبريل عليه الصلاة والسلام عرض لي فقال: بعدًا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين". وفي رواية أخرى: "هذا رمضان قد جاء، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النار، وتغلُّ فيه الشياطين، بعدًا لمن أدرك رمضان لم يُغفر له فيه، إذا لم يغفر له فيه فمتى".
ذاك هو رمضان؛ الشهر الذي خرج عن المألوف والمعتاد، ليس فقط في الفضل والمكانة بين الشهور، وإنما أيضًا -وهو المقصود- في قدرته على إعادة بناء الفرد والمجتمع، بل والأمة كلها، وإتاحة الفرصة للأفراد بتهيئة الأجواء للتربية الحقَّة، وإمكانية الانتصار على النفس، وفنِّ ترويض وإدارة وصناعة الذات!
الصيام.. جهاد واستعلاء
ولعلنا لا نقصد هنا رمضان القيام والقرآن، والرحمات والبركات، ومضاعفة الأجر والحسنات.. وكلها مطلوبة وحاصلة بإذن الله، وإنما نعني أمرًا آخر ونبحث في علَّةٍ بعيدة، علَّها هي التي أرادها الله U من مشروعية الصيام، وذلك حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فهي (التقوى) المحصّلة النهائية والنتيجة المترتبة على سلوك طريق الصيام، الطريق الذي لا يعني إلا التحكم في الذات، وإمكانية أن يقول الفرد لنفسه: "لا".
فهذه العلة التي هي التقوى تحصل بالصيام، وذاك الصيام الذي يؤدي إلى ذلك لا يعني فقط مجرد الامتناع عن الطعام والشراب والجماع، وإنما يعني -كما أشار سيد قطب أثناء تعرضه لظلال آيات الصوم- الاستعلاء على ضرورات الجسد، والصبر عن الحاجات الأولية للحياة، وتقرير للإرادة، وتوكيد لغلبة الإنسان في هذا الكائن البشري على الحيوان!
ذلك الصيام يعني ترك العلائق، واجتياز العوائق، والانتصار على العوائد، والسمو عليها جميعًا، وجعل الإنسان نفسه أسيرة إرادته وعلو همته وقوة عزيمته المرتبطة برباط السماء؛ فتدور معه حيثما أراد؛ فتنصلح العلاقة بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين محيطه، في تكاملية رائعة تحقق لذلك الإنسان الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
فثمة علاقة -إذن- قوية ووطيدة بين الصيام وجهاد النفس الذي هو الجهاد الأكبر؛ إذ إن في الصوم قدر كبير من جهاد النفس في سُلّم الترقِّي والتسامي عن متطلبات الجسد الطيني.
الصيام والتقوى.. علاقة وطيدة أكيدة
ومن شأن هذا الصيام بهذا المعنى أن يحقق الفاعلية المرجوة منه وهي التقوى، طالما كان صحيحًا ساميًا.. طالما استطاع الإنسان أن يُجاهد نفسه ويمنعها هواها وينتصر عليها، طالما أمسك نفسه واستطاع أن يُلجمها عن اقتحاماتها المهلكة؛ فأمسك لسانه عن اللغو والكذب والغيبة والنميمة وقول الزور والخوض في الأعراض، وأعمى بصره عن النظر إلى الحرام، ونأى بنفسه عن الدنايا ومواطن الشك والشبهات.
وإن هذا المعنى -معنى أن الصيام أكبر من أن مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة- كان واضحًا وجليًّا في ذهن رسول الله r، فقد أثبت ذلك رسول الله r -كما جاء في صحيح البخاري- حين قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
فلا بأس -إذن- من أن يُقدم المسلم في نهار رمضان على طعامه وشرابه، طالما أن المعنى الحقيقي للصيام والمقصود الأصلي منه والعلة الأساسية لم تتحقق بعد.. وكيف لا وقد علمنا الرسول r أن الصيام الحقيقي هو الذي -يقينًا- يرفعنا على شهوات النفس وأهوائها! فكيف يكون صيامًا ولم تصم الجوارح؟ وكيف يكون صيامًا والنفس ترتع فيما يُناقض معنى الصيام..؟!
لقد أرشد الرسول r الشبابَ إلى أن يلوذوا بملاذٍ آمن وحصنٍ حصين ندُر أن يُخترق، يحميهم ويقيهم من شهوات النفس المشتعلة ونار الشباب المتَّقدة، فلم يكن إلا أن دلَّهم r على أمرٍ عظيمٍ وهو الصيام! فنادى عليهم قائلاً كما ثبت في الصحيحين: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء (أي: وقاية)".
ولم يكن الرسول r يعني سوى الصوم الحقيقي الذي أشرنا إلى بعض من سماته، والذي تكون التقوى ثمرة من ثمراته.
وإذا ما تحققت التقوى فتحدث حينئذٍ كيف شئت عن أبواب الخير والرزق المفتَّحة، ليس فقط على مستوى الفرد، وإنما على مستوى الجماعة والأمة كلها، فكما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، فقد قال أيضًا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96].
الصيام.. صناعة الذات
وهذا الصيام الذي هو علة تحقيق التقوى، هو مدخل مهم لصناعة الذات، ويبدو ذلك عن طريق التحكم فيها، وتوجيهها الوجهة التي يريدها الإنسان التقيّ، حيث يريد المعالي، ويبغي الكمال الإنساني، ويرنو إلى أن يسمو بنفسه فوق ضجيج المادة وتياراتها الجارفة، وأن يُحلِّق بها بعيدًا في أفق السماء العالي، فيستشرف أضواء الحقيقة وإشعاعاتها، لا تلك الوجهة التي تريدها نفسه الطينية، والتي تريد الدنايا، وتهوى الشهوات والملذات، وتركن إلى الدعة والكسل والخمول..
فحين يكسر الإنسان شهوته ويقمع هواه ولا يرضخ لرغبات نفسه، وحين يمنع الإنسان نفسه من ضرورات تعينه على البقاء، كالطعام والشراب، وحين يرتفع فوق ملذات جسدية أباحها الله له.. حينها يمكن لذلك الإنسان أن يصنع ذاته ويُشكِّلها كيفما يُريد، ووقت أن يكون محفوفًا بالشهوات ومحفوفًا بالمكاره، فيجنِّب نفسه -على الأقل- الوقوع في الحرام بعد رمضان، ويبتعد بها عن الرذائل والأخلاق والعادات السيئة.
ولعل بيت القصيد في ذلك إنما هو في شهوتي البطن والفرج؛ فإنهما أساس كل بلية.. ومن يمكنه الاستعلاء على نداءات بطنه وفرجه خلال الصيام، يمكنه وبسهولة الاستعلاء على المحرمات الأخرى؛ من غشٍ وخداعٍ وغيبةٍ ونميمةٍ ورشوة.
وفي ذلك يقول الرازي في تفسيره الكبير: "إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويُهوِّن لذات الدنيا ورياستها؛ وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه؛ فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعًا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونًا عليه أمر الرياسة في الدنيا".
وأمر الرياسة في الدنيا هو مقصود صناعة الذات، تلك التي تجعل الإنسان يتعالى على السفاسف، ولا يكون طريقه إلا في المعالي، ويصبح حرًّا طليقًا؛ فلا تستعبده شهوة، ولا تقهره عاطفة، فيُصبح وقد وضع نفسه حيث أراد دنيويًّا وأخرويًّا، وأمكنه أن يُعرَّف زمانه من يكون.. وبذلك يكون مغزى الصيام في شهر رمضان الفضيل، رزقنا الله وإياكم صيام نهاره وقيام ليله.. اللهم آمين.
التعليقات
إرسال تعليقك