التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الحركات الانفصالية في العالم الإسلامي ارتكزت على عديدٍ من الأسس المتباينة، وجنحت كلٌّ منها إلى حجة تعطيها مشروعية الوجود والبقاء؛ فبعضها قد التمس السبب
الحركات الانفصاليَّة في العالم الإسلامي ارتكزت على عديدٍ من الأسس المتباينة، وجنحت كلٌّ منها إلى حجَّةٍ تُعطيها مشروعيَّة الوجود والبقاء؛ فبعضها قد التمس السبب في الانفصال من نزعةٍ سياسيَّة، وبعضها قد التمسه من نزعةٍ مذهبيَّة، وبعضها قد التمسه من نزعةٍ قوميَّة، وبعضها قد التمسه من "ضعف الخلافة".
ولم نجد في تاريخ هذه الحركات ذلك الشجاع الصريح الذي يُعلن أنَّ رغبته في الانفصال ترجع إلى سببٍ حقيقيٍّ واحدٍ هو الرغبة في الوصول إلى السلطة، وتملُّك الحكم، والمجد الأدبي والمالي.
وفي فترةٍ متقاربةٍ بدأت الحركات الانفصاليَّة تظهر في العالم الإسلامي، وكأنَّها خصيصةٌ جديدةٌ من خصائص التطوُّر التاريخي لهذه الفترة؛ الأندلس انقسمت عن الخلافة العباسية بقيادة عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- ومثَّلت بوجودها آخر ومضةٍ من ومضات وجود بني أميَّة، وظلَّت باقيةً ثلاثة قرون تُمثِّل هذه الومضة، وانقسم بنو طاهر في خراسان انقسامًا تبعوا فيه دولة الخلافة العباسيَّة عكس بني أميَّة في الأندلس، وانقسم في مصر ابن طولون في تاريخٍ قريبٍ من هذا.
وكان لابُدَّ للمغرب العربي -وهو الأرض الواقعة كجسرٍ تاريخيٍّ بين الامتداد العقائدي الذي وصل إلى مشارف باريس وبدأ ينحسر بعد موقعة بلاط الشهداء واستشهاد عبد الرحمن الغافقي، بينه وبين مركز الإسلام الأصيل ومهبط الوحي وأرض العرب- أن تظهر فيه هذه الظاهرة.
والحقُّ أنَّ الحركات الانفصاليَّة في المغرب العربي كانت تملك المبرِّر في الانفصال؛ فإنَّ عمَّال بني أميَّة كانوا قد أساءوا السيرة فيهم وعاملوهم "كبربر"؛ أي كمواطنين من الدرجة الثانية، كما أنَّ أهل العراق بكلِّ ما أُثير بينهم من جدلٍ كلاميٍّ وفتنٍ عقائدية قد حملوا هذا الجدل وهذه الفتنة إليهم، وحرَّضوهم على خلفاء بني أميَّة، وَوَلَّدوا فيهم الرغبة في الانفصال.
وعلى مشارف القرن الثالث الهجري كانت هناك دول ثلاث منفصلة تحكم المغرب العربي ولا تخضع للخلافة العباسيَّة إلَّا اسمًا، وهي: الأدارسة والأغالبة والرستميون، وكانت هذه الدول بوضعها ذاك تُمثِّل الأرض القابلة لأيِّ امتدادٍ طموحي، ووجد فيها العبيديون الفاطميون فيما بعد الأرض الصالحة لغرس بذورهم.
وكانت دولة الأغالبة التي قامت في تونس سنة 184هـ أبرز الدول الانفصالية في المغرب العربي، وكان مؤسِّسها إبراهيم بن الأغلب الذي أرسله الخليفة العباسي هارون الرشيد لخلق الاستقرار في المغرب العربي في ظلِّ حماية العباسيِّين، يتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من الشجاعة والذكاء، وقد اتَّخذ إبراهيم مدينة القيروان عاصمةً له، وبعد وفاته سار بنو الأغلب على منواله في توطيد أمن المغرب وتقوية أسطوله وجيشه وتنمية موارده.
وكان أبرز ما قدَّمه الأغالبة للإسلام هو فتحهم لصقلِّيَّة وضمها إلى أرض الإسلام، بقيادة قائدهم "أسد بن الفرات" في عهد أميرهم "زيادة الله بن إبراهيم الأغلب"، الذي تولَّى الحكم سنة 201هـ، كما أنَّهم تقدَّموا فاستولوا على جنوب إيطاليا، ويقال: إنَّهم واصلوا زحفهم حتى دقُّوا أبواب روما.
وقد ازدهرت الحركة الاقتصاديَّة والعمرانيَّة في إفريقيا التونسيَّة على عهدهم، كما أنَّ الأمن قد ساد البلاد وأصبحت تونس على الجملة عامرة مزدهرة ازدهارًا عظيمًا، وقد أسَّسوا بالقيروان عدَّة مساجد لعبت دورًا كبيرًا في تدعم الحضارة الإسلامية، ومن أبرزها جامع الزيتونة الذي أصبح في المغرب كالأزهر في الشرق، ولعب دورًا مهمًّا في الحياة العلميَّة الإسلاميَّة.
وقد اشتهر بعض ملوك الأغالبة بالقسوة الشديدة، وكان سفك الدماء عندهم أسهل من شرب الماء، ولعلَّ هذا من أبرز ما أُخِذ عليهم، وقد مدَّ من عمرهم في المغرب انصراف الخلافة العباسيَّة إلى مشكلاتها المشرقية، وعدم قطعهم لكلِّ أواصر المودَّة مع الخلافة العباسية، وبالتالي رضيت الخلافة في ظلِّ ظروفها بالقدر الذي يدينون به بالطاعة لها، كما أسكتها انتصارات الأغالبة في معارك الجهاد ضدَّ الصليبيِّين في أوربَّا، والساحل الجنوبي الأوربِّي، وجزر البحر الأبيض المتوسِّط.
هذا كلُّه قد غفر لهم بعض أخطائهم وجعلهم يعيشون أكثر من قرنٍ من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها، ويحكمون صقلِّيَّة، ويفرضون هيبتهم على الدول الأوربِّيَّة.
لكنَّ الدول الانفصاليَّة لا يُمكن أن تقف أمام الحضارات الجامعة التي تُمثِّل كيانًا وجوديًّا له أبعاده الحضاريَّة المتكاملة.
ومن هنا فلم يستطع الأغالبة الصمود أمام الفاطميِّين الذين برزوا في المغرب بقيادة داعيتهم أبي عبيد الله المهدي، فسقطوا على يد الفاطميِّين هؤلاء سنة 296هـ.
لقد سقطوا أوَّلًا وقبل كلِّ شيءٍ باعتبارهم حركةً انفصاليَّةً لا تستطيع أن تصمد أمام كيانٍ حضاريٍّ زاحفٍ له راية وأيديلوجيَّة يقف تحتها، مهما اختلفنا في أبعاد هذه الراية، أو هذه الأيديلوجية.
التعليقات
إرسال تعليقك