ملخص المقال
لم يمر على انتصار الموحدين الخالد في موقعة الأرك أكثر من ثمانية عشر عامًا حتى هُزموا شر هزيمة في موقعة العقاب التي سحقت نفوذهم في الأندلس.
إنك تستطيع أن تنتصر في معركة، وأن تقهر عدوك وأن تحكم بالموت على مدينة بريئة، وقد يكون ذلك انتصارًا لك ويمد التاريخ في عمرك عدة سنوات!!.
لكن أنْ تصنع حضارة وأنْ تبني دولة تبقى.. وأنْ تمد التاريخ بصناع مبدعين.. أنْ تفعل ذلك وأكثر منه، فهناك طريق آخر.. طريق ليس الدم من معالمه، بل هو أبرز صخوره وعوائقه.
هذه حقيقة من حقائق الحضارة أكثر منها حقيقة من حقائق التاريخ!!.
لكن هذه الحقيقة غابت عن بناة دولة الموحدين التي قامت في المغرب والأندلس قرابة قرن ونصف القرن (524- 668هـ)، ومنذ تأسيس هذه الدولة سواء فكريًا على يد زعيمها الروحي محمد بن تومرت أو زعيمها السياسي والعسكري عبد المؤمن بن علي وأسلوب الدم هو أبرز الأساليب التي اعتمدت عليها هذه الدولة في إرساء دعائمها.
لقد كانت دولة المرابطين هي أبرز الدول التي قامت على أنقاضها هذه الدولة الموحدية. وقد استعمل الموحدون أقسى الوسائل الدموية في تصفية دولة المرابطين التي لم تكن أكثر من دولة مسلمة، مهما قيل عن حكامها الأخيرين، وقد أخذوا الناس بجرائر الحكام وقتلوا مع المحاربين والنساء والشيوخ، وحكموا على مدن بأكملها بالموت.. هكذا فعلوا في " وهران " فقد قتل الموحدون فيها كل من وجدوهم مع المرابطين، وعندما التجأت جماعات مرابطية على حصن من الحصون قطع الموحدون عنهم الماء فلجأ المرابطون إلى التسليم بعد ثلاثة أيام، ومع أنهم استسلموا فقد قتلهم الموحدون كبارًا وصغارًا، وكان ذلك يوم عيد الفطر من سنة 539هـ!!.
والشيء نفسه أو قريب منه قام به الموحدون عند استيلائهم على مدينة مراكش، فعندما سقطت المدينة بعد مقاومة رائعة ودفاع مستميت قتل الموحدون من أبناء المدينة من الجنود والمدنيين على حد سواء نيفًا وسبعين ألف رجل، ولم يكتفوا بهذا العدد من الرجال، بل إنهم استباحوا المدينة ثلاثة أيام فاستحر برجالها القتل الذريع هذه الأيام الثلاثة الكئيبة، لم ينج من أهلها إلا من استطاع الاختفاء في سرب أو غيره، وقد قيل إنه عند الانتهاء من الأيام الثلاثة وإعلان العفو عن الباقين من الأحياء من أهلها لم يظهر حيًا إلا سبعون رجلًا، وباعهم الموحدون بين أسارى المشركين.
وهكذا كانت البداية الثورية العنيفة الخاطئة لدولة الموحدين التي نجحت في إنقاذ الأندلس في موقعة الأرك سنة 591 هجرية من التداعي وقامت على نحو ناجح بتوحيد المغرب العربي والأندلس.. ومع ذلك بقيت لعنة الدم وراءها، لقد بقي قانون الله يطالب بالقصاص العادل، قوانين الله أكبر من أن يحيط بها هذا الإنسان المحدود التصور والرؤية، لقد قضى الله بعقوبة هذه الدولة من داخلها، لقد تحول أسلوب الدم إلى وسيلة داخلية قتل بها الموحدون بعضهم بعضًا.. وخضعوا بذلك لقانون الله الذي لا يتخلف.
ولم يمر على انتصار الموحدين الخالد في موقعة الأرك أكثر من ثمانية عشر عامًا حتى انتكس الموحدون نكستهم التي كانت من أسباب تحطيم الوجود الإسلامي في الأندلس كلها، وكان ذلك سنة 609 هجرية حين هُزموا شر هزيمة في العقاب التي أبيدت فيها جيوش الموحدين، وسحق نفوذهم في الأندلس من جرائها، ومنذ هذا الوقت وصرح الموحدين يتداعى تحت ضربات الدم، وعلى امتداد خمسين سنة (609- 668هـ) والموحدون يقضون على أنفسهم بأيديهم في معارك أهلية داخلية.
فالمأمون الخليفة الموحدي العاشر، والرشيد الحادي عشر، ويحيى المعتصم التاسع، ويوسف المنتصر الخامس وغيرهم قد استنفدت قواهم في قتال داخلي أباد كثيرًا من عناصر الموحدين بل إن جهاز الدولة، والعناصر الثائرة فيها قد تولت هي قتل الخلفاء في الآونة الأخيرة.
فتم قتل الخليفة الموحدي أبي محمد، عبد الواحد الرشيد، والخليفة العادل، بل إن الخليفة المأمون قتل أشياخ الموحدين الذين خالفوه، وكانوا أكثر من مائة، فقضى هذا الأسلوب الدموي على خلاصة الزعامة الموحدية. ومن خلف مسيرة الدم والعنف بقي قانون الله في القصاص عبرة للذين يعتبرون، فالدم هو طريق الدم، أما الذين يحاولون صنع الإنسان أو صنع حضارة فلهم طريق آخر.. طريق آخر كريم ونظيف[1].
[1] عبد الحليم عويس: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، ص75- 77.
التعليقات
إرسال تعليقك