ملخص المقال
كان أبو إسحاق الإلبيري محدثًا وأديبًا وشاعرًا وفقيهًا عالـمًـا في الأندلس يدعو الناس إلى العودة إلى طريق الله تعالى بعيدًا عن الإسراف في ملاذ الدنيا.
نسب أبو إسحاق الإلبيري ومولده
هو أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود بن سعيد التُجيبي الأندلسي، نسبة إلى تُجيب في اليمن، واشتهر بأبو إسحاق الإلبيري نسبة إلى مدينة إلبيرة، كان فقيهًا ومحدثًا وأديبًا وشاعرًا، وُلد في حصن العقاب نحو سنة 375هـ، ونشأ فيه نشأته الأولى.
أبو إسحاق الإلبيري ورحلته العلمية
خرج إسحاق الإلبيري من حصن العقاب قاصدًا مدينة إلبيرة المجاورة، فتلقى مزيدًا من علومه وثقافته، ثم استقر فيها والتقى بكبار شيوخها وروى عنهم وتبحر في العلوم الشرعية حتى اشتهر بالفقه والقراءات القرآنية، وفي إلبيرة تكوّنت شخصيته، وظهر بين أصحابه وأقرانه ونشر فيهم أوائل شعره، وصار معروفًا لديهم بالشعر كمعرفتهم إياه فقيهًا متميزًا بينهم، وقد ظهر واضحًا تعلق الإلبيري بمدينة إلبيرة وارتباطه نفسيًا بذكرياتها وآثارها وأهلها من خلال قصيدته التي رثاها فيها بقوله:
وَكم بلغت فِيهَا الْأَمَانِي وقضيت ... لصب لبانات بهَا ومآرب
لعهدي بهَا مبيضة اللَّيْل فاعتذت ... وأيامها قد سودتها النوائب
ثم بعد ذلك انتقل الإلبيري إلى مدينة غرناطة، والتي كانت له بمثابة فرصة أخرى للقاء العلماء، ولاتخاذ مكانة بين الفقهاء، وطالت إقامته في غرناطة حتى أنه عمل كاتبًا لدى القاضي أبي الحسن علي بن توبة، وكان هذا القاضي قد تولى العمل لباديس بن حَبُّوس الزيري صاحب غرناطة إثر توليه السلطة سنة 429هـ، وكانت علاقة الإلبيري بهذا القاضي وثيقة، وكان به مُعجبًا حتى أنه مدحه وأثنى عليه ودافع عنه، وفي أثناء إقامة الإلبيري بغرناطة كثر أصحابه، وتلامذته وقرّاء شعره والمستمعون إليه، وكان بعض شعره يُنشد ويُحتفل به، كما كان شعره كله مما يتابعه الناس ويعجبون به.
أبو إسحاق الإلبيري ونبوغه في العلم
كان أبو إسحاق الإلبيري محدثًا وأديبًا وشاعرًا وفقيهًا عالمــًا في جملة الفقهاء، يروي عن العلماء، ويأخذ طريقه إلى ممارسة الإقراء والتدريس والرواية والتعليم، فكان يحذر وينذر ويدعو الناس إلى العودة إلى طريق الله تعالى بعيدًا عن الإسراف في ملاذ الدنيا، إضافة إلى ذلك كان يعمل جاهدًا في التنبيه على المشكلات الاجتماعية الطارئة المسيطرة التي أدت على التقاعس والخمول والتضييع.
وقد لقى أبو إسحاق الإلبيري عددًا من كبار علماء الأندلس في عصر ناهضٍ من الناحية العلمية والحضارية، وفي ظلال الحركة الفكرية العظيمة التي سعى لها بنو أمية عامة، وعبد الرحمن الناصر (ت: 350هـ) وابنه الحكم المستنصر (ت: 368هـ) خاصة.
وفي هذه المدة التي عاصرها أبو إسحاق الإلبيري ظهرت شخصيات كبيرة مؤثرة في الحياة الفكرية والعلمية والأدبية والفنية في الأندلس مثل ابن حزم الفقيه الظاهري المعروف (ت: 456هـ)، وابن زيدون (ت:461هـ)، وابن شُهيد (ت: 426هـ).
أبو إسحاق الإلبيري ودوره السياسي
أدرك الإلبيري من العُهود السياسية في الأندلس ثلاثة عهود، وفي كل عهد أمراء ورؤساء وظروف مختلفة: فقد أدرك أولًا عهد الدولة العامرية بالأندلس، ثم أدرك المدة التي تلتها، وهي فترة امتدت من سنة 400 إلى 422هـ، وكانت فترة اضطراب وفتن، ثم بعد ذلك عاصر فترة دول الطوائف التي اقتسمت الجسد الأندلسي.
في سنة 411هـ، أي في تلك الفترة التي اتسمت بالاضطرابات والفتن، بدأ حكم دولة بني زيري بن مناد في غرناطة، وبني زيري هؤلاء يرجعون في الأصل إلى قبيلة صنهاجة البربرية الشهيرة، وقد جاءوا من أواسط المغرب إلى الأندلس في عام 391هـ، أثناء حكم المنصور بن أبي عامر الذي أنزلهم منزلًا حسنًا، واتخذهم له بطانة وعونًا، ثم قويت شوكتهم بعد ذلك، ورجحت كفتهم في الجيش، وغدوا للدولة عضدًا.
بدأت دولتهم في غرناطة بولاية حبوس بن ماكسن الذي توفي سنة 428هـ، ثم حكم بعد وفاته ولده باديس، وكان لباديس كاتب من اليهود يدعى يوسف بن نغرالة، وقد علت منزلته حتى رفعه باديس فوق سائر كتابه ووزرائه، وفوضه في جميع أموره، وبذلك سيطر يوسف ابن نغرالة على الدولة، وبسط على غرناطة وأعمالها نوع من الطغيان اليهودي المرهق.
اضطرم سائر أهل غرناطة سخطًا على الطاغية اليهودي، وبدأوا يترقبون الفرص لإسقاطه، ولقي سخط الشعب الغرناطي على اليهود في تلك الآونة، متنفسه في الشعر، واستطاع أبو إسحاق الإلبيري ذلك الشاعر الفذّ بما أُوتىَّ من فقه ومن موهبة وفصاحة أن يوقظ أهل غرناطة، لاسيما وأنه كان من أشد الناس إحساسًا بسوء الأوضاع السياسية في وطنه، فكان يعمل جاهدًا في الدعوة إلى رفع الظلم عن الناس، حتى أنه وُشى به لدى السلطان باديس الذي أصدر أمرًا بنفيه إلى إلبيرة.
وبسبب صراحته ووقوفه وقفة صلبة بجوار شعبه نفاه السلطان باديس من غرناطة إلى إلبيرة، ورغم ذلك ظل الإلبيري يحرض الشعب الغرناطي على ابن نغرالة واليهود في شعره ووعظه، وقد نظم قصيدته الشهيرة في التخلص من طغيانهم، والتي يقول في مطلعها:
ألا قل لصنهاجة أجمعين ... بدور الزمان وأسد العرين
لقد زل سيدكم زلة ... تقرب بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافرًا ... ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتخوا ... وتاهوا وكانوا من الأرذلين
تلك القصيدة التي ذاعت يومئذ ذيوع النار في الهشيم، وألهبت مشاعر الشعب الغرناطي، وكانت كالشرارة التي أضرمت الحريق وأثارت الانفجار، وانتهى أمر يوسف ابن نغرالة بأن قتلته العامة في ثورتها العارمة، وتخلص الناس من مكايده وفساده وتخريبه، وذلك في سنة 459هـ= 1066م.
وفاة أبو إسحاق الإلبيري
كان أبو إسحاق قد بلغ العقد التاسع من عمره فلبّى نداء ربه في نحو سنة460 هـ= نحو 1068م، وكان من أهل العلم والعمل معروفًا بالصلاح، وشاعرًا مجودًا وشعره مدون في ديوان كامل يحوي اثنين وثلاثين بين مقطوعة وقصيدة، وقد وجدت له مقطعات أخرى لم يحوها ديوانه مما يدل على أن ديوانه لا يمثل جميع ما خلفه الإلبيري من نتاج شعري، وشعره كله تذكير ووعظ وتخويف من الموت ونصح بالتخلي عن المال والجاه.
ومن ذلك القصيدة الزهدية التي أولها:
تفت فُؤَادك الْأَيَّام فتا ... وتنحت جسمك السَّاعَات نحتا
وتدعوك الْمنون دُعَاء صدق ... أَلا يَا صَاح أَنْت أُرِيد أنتا
تنام الدَّهْر وَيحك فِي غطيط ... بهَا حَتَّى إِذا مت انتبهتا[1].
[1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الرابعة، 1417 هـ - 1997م، 2/ 121- 138، ومحمد رضوان الداية: ديوان أبي إسحاق الإلبيري الأندلسي، دار الفكر، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1411هـ= 1991م، ص7- 17، وشوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، دار المعارف، مصر، الطبعة الأولى، 1960م، 8/ 353- 356، وإحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين)، دار الثقافة، بيروت، لبنان، ص135، 136.
التعليقات
إرسال تعليقك