الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
كانت مملكة سرقسطة من أهم الممالك الإسلامية في بلاد الأندلس، وقد اكتسبت تلك الأهمية بسبب اتساع مساحتها الجغرافية وموقعها العسكري والسياسي.
تعد مملكة سرقسطة من أهم وأخطر الممالك الإسلامية في بلاد الأندلس؛ وخاصة في عصر ملوك الطوائف، وقد اكتسبت تلك الأهمية بسبب اتساع مساحتها الجغرافية، وموقعها العسكري والسياسي الخطير، حيث كانت تقع بين إمارة برشلونة من الشرق ومملكتي أراجون ونافار "نبرة" من الشمال، ومملكة قشتالة من الغرب، وبالتالي كانت تُعد حاجزًا طبيعيًا بين أراضي المسلمين وأراضي النصارى، وحائط الصد الأول والأهم لبلاد الأندلس من هجمات الممالك النصرانية الإسبانية، لذلك أطلق عليها المسلمون "الثغر الأعلى"[1].
ومنذ بداية عهد الإمارة في الأندلس كانت سرقسطة تمثل زعامة الأسر العربية، والرياسة المحلية، في الثغر الأعلى، واستمرت هذه الزعامة قائمة خلال القرن الخامس الهجري، أولًا في بني هاشم التجيببيين، ثم في خلفائهم بني هود، حتى جاء المرابطون ودخلوها في سنة 503هـ= 1110م استجابة لصريخ أهلها، وقد شعر المرابطون منذ الساعة الأولى بالموقع الذي تحتله سرقسطة في قلب هذا المعترك من الإمارات النصرانية المتوثبة، وشعروا بفداحة مهمتهم في حمايتها والاحتفاظ بها، لأنها كانت هدفا لأطماع مملكتي قشتالة وأراجون.
ولما دخل المرابطون سرقسطة سار إليها ألفونسو الأول "ابن رذمير" ملك أراجون الملقب بالمحارب في العام التالي أي في سنة 504هـ= 1111م وحاول مهاجمتها، فردته عنها القوات المرابطية، ولكنه واصل دعواته وحركاته ضد المسلمين عدة سنوات حتى واتته الفرصة المناسبة وجمع جيشًا من الأرجونيين والفرنج بلغ في إحدى الروايات خمسين ألف فارس، وبدأ حصار سرقسطة في مستهل شهر صفر سنة 512هـ= 22 مايو سنة 1118 م، وطوقتها قوات كثيفة من الفرنج والأرجونيين، والبشكنس والقطلان وغيرهم.
كانت سرقسطة، فضلًا عن حصانتها الطبيعية، تعتمد في الدفاع على أسوارها العالية القوية، وجاء المحاصرون معهم بأبراج خشبية عالية تجري على بكرات لكي يستطيع المهاجمون بها محاذاة الأسوار العالية، لينصبوا فوقها الرعدات، وجاءوا كذلك بعشرين منجنيقًا ضخمة لدك الأسوار.
واستمر حصار سرقسطة سبعة أشهر وفي الوقت الذي كان فيه أهل سرقسطة، يعانون ويلات الحصار داخل الأسوار، كان المعسكر النصراني، يعاني من نقص المؤن، ويهدده الجوع بشبحه المروع، حتى لقد فكر قادة الجيش النصراني في رفع الحصار، لولا أن شجعهم أسقف وشقة وزملاؤه، ووضعوا تحت تصرفهم ذخائر عدة من الكنائس يجلبون بثمنها الأقوات، أما في داخل سرقسطة، فقد كانت الأقوات تنضب يومًا بعد يوم، خصوصًا وأن أهل المدينة المحصورة لم يتمكنوا من جني محاصيلهم لتبكير النصارى في فرض الحصار، وكان من العسير عليهم أن يتلقوا أية مؤن من الخارج، لإحكام الحصار حول المدينة، من ناحية النهر وناحية البر. ومضت الأشهر تباعًا والحال تشتد شيئا فشيئًا، حتى " فنيت الأقوات، وفني أكثر الناس جوعًا "، ووقع خلال ذلك حادث زاد في وجوم أهل المدينة، وارتباك تدابير الدفاع، هو وفاة واليها عبد الله بن مزدلي، في أوائل جمادى الآخرة (سبتمبر 1118م). والظاهر أنه لم يخلفه في الرياسة أحد من أهل المدينة، فترك الأمر فوضى وأخذت الخاتمة المروعة تدنو شيئًا فشيئًا.
تركت سرقسطة لمصيرها، واضطرت بعد أن عانت من أهوال الحصار، وعصف الجوع والحرمان والمرض، وبعد أن يئس أهلها من إجابة صريخهم، وتلقي الإنجاد من أي مكان خاطبوا ألفونسو أن يمنحهم هدنة مؤقتة، فإذا لم يأتهم الإنجاد المنشود، سلمت إليه المدينة، وتعاهد الفريقان على ذلك، ثم مضى هذا الأجل دون أن يتلقى المحصورون أية معونة، فاضطرت المدينة إلى التسليم في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان سنة 512هـ= 18 ديسمبر سنة 1118م ولكن بشروط أهمها:
أن تسلم سرقسطة إلى ابن رذمير ملك أراجون، ومن أحب المقام بها من أهلها فله ذلك، على أن يؤدي جزية خاصة، ومن أحب أن يرحل إلى حيث شاء من بلاد المسلمين، رحل وله الأمان التام، وعلى أن يسكن الأرجونيون والفرنج المدينة، والمسلمون ربض الدباغين، وهو حي من أحياء سرقسطة المتطرفة، ودخل ألفونسو الأرجوني وحلفاؤه المدينة وجعلها عاصمة له بعد أن قطع لأهلها المسلمين العهود، وسمح لهم مدى فترة قصيرة بالإحتكام إلى شريعتهم، ولكن بعد ذلك حول مسجد سرقسطة الجامع إلى كنيسة سلمها للرهبان.
وهكذا سقطت سرقسطة، بعد أن حكمها المسلمون منذ الفتح أكثر من أربعة قرون، وبعد أن لعبت في تاريخ الثغر الأعلى الأندلسي أعظم دور سواء من الناحية العسكرية أو السياسية أو الحضارية، ولما سقطت الحاضرة الإسلامية، ودخلها النصارى، غادرها معظم أعيانها وأكابرها المسلمين، من الحكام والعلماء والقضاة وغيرهم، وكان سقوطها ضربة جديدة قاصمة للأندلس[2].
[1] دكتور راغب السرجاني: قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، ص396، 397.
[2] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1411هـ= 1990م، 3/ 86- 102.
التعليقات
إرسال تعليقك