ملخص المقال
العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، كان من العلماء الأفذاذ الذين بلغوا شأوًا عظيمًا في علم التفسير، وترك عددًا كبيرًا من المؤلفات والمصنفات.
العلامة المفسر الأصولي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، من العلماء الأفذاذ الذين بلغوا شأوًا عظيمًا في علم التفسير، فهو محقق ومفسر وعالم متضلع في فنون عدة ولكن أبرزها علم التفسير، ولد في بلاد شنقيط (موريتانيا الآن)، وطلب العلم في سن مبكرة فحفظ القرآن ودرس الفقه المالكي، ثم رحل إلى الحج، وآثر البقاء في المملكة العربية السعودية، فدرس على شيوخها وتتلمذ على كثير من علمائها، ثم تولى التدريس في المعاهد العلمية والكليات الشرعية في الرياض والمدينة، وكان ضمن هيئة كبار العلماء وعضوًا في رابطة العالم الإسلامي.
نسب الشنقيطي ومولده ونشأته
هو محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح بن محمد بن سيدي أحمد بن المختار، من أولاد الطالب أوبك، الذي هو من أولاد كرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكن الأبر، جد القبيلة المعروفة بالجكنيين، والتي يرجع نسبها إلى حمير، ولد سنة 1325هـ= 1907م في مدينة شنقيط بموريتانيا، ونشأ بها يتيمًا، حيث توفي والده وهو صبي صغير، وترك له ثروة من المال والحيوان، وترعرع الغلام في بيت أخواله، وكان ذلك البيت يزخر بالعلم والأدب حتى أنّ الغلام الصغير أتم حفظ القرآن الكريم على يد خاله وهو في العاشرة من عمره.
الشنقيطي.. وطلبه للعلم
بعد أن أتم الشنقيطي حفظ القرآن في سن العاشرة تعلم رسم المصحف العثماني، أتم قراءة التجويد وهو في سن السادسة عشر، ودرس بعض المختصرات في الفقه على مذهب الإمام مالك، كما درس أنساب العرب وأيامهم، والسيرة النبوية، والأدب، ومبادئ النحو والصرف، والأصول، والبلاغة، وشيئًا من الحديث، والتفسير، إضافة إلى ذلك قرَأ المنطق وآداب البحث والمناظرة.
يقول الشيخ الشنقيطي عن بداية طلبه للعلم: "ولما حفظت القرآن، وأخذت الرسم العثماني، وتفوقت فيه على الأقران، عنيتْ بي والدتي وأخوالي أشد عناية، وعزموا على توجيهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين، أحدهما عليه مركبي وكتبي، والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات، وقد هيأت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب، وملابس كأحسن ما تكون، فرحًا بي، وترغيبًا لي في طلب العلم، وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل".
الشنقيطي.. وهمته في طلب العلم
كان الشيخ الشنقيطي منذ صغره يتمتع بهمة عالية في طلب العلم، فلم يكن يفوّت مسألة مما درس دون استيعاب وتمحيص، حتى وإن كلفه ذلك جهودًا مضنية وأوقاتًا طويلة، وقد تحدث عن ذلك بنفسه قائلًا: "جئت للشيخ في قراءتي عليه، فشرح لي كما كان يشرح، ولكنه لم يشف ما في نفسي على ما تعودتْ، ولم يروِ لي ظمئي، وقمتُ من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس، وإيضاح بعض المشكل، وكان الوقت ظهرًا، فأخذتُ الكتب والمراجع، فطالعتُ حتى العصر، فلم أفرغ من حاجتي، فعاودتُ حتى المغرب، فلم أنته أيضًا، فأوقد لي خادمي أعوادًا من الحطب أقرأ على ضوئها، كعادة الطلاب، وواصلت المطالعة، وأتناول الشاي الأخضر كلما مللت أو كسلت، والخادم بجواري يوقد الضوء، حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام، وإلى أن ارتفع النهار وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي، ووجدت هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم".
الشنقيطي.. غزارة علمه وسعة اطلاعه
حبا الله الشيخ الشنقيطي ذكاءً مفرطًا، وحافظة نادرة، وهمة عالية، فسخر ذلك كله في تحصيل العلم وجمعه بمختلف فنونه وصنوفه، من عقيدة، وتفسير، وحديث، وأصول، وعربية ... وكان كلامه في العلم يشد كل من سمعه، حتى يخيل للسامع أن الشيخ أفنى عمره في ذلك الفن ولا يحسن غيره.
كما كان رحمه الله يحفظ من أشعار العرب وشواهد العربية الآلاف المؤلفة من الأبيات، كما كان يحفظ أكثر أحاديث الصحيحين، وألفية ابن مالك، ومراقي السعود، وألفية العراقي، وغير ذلك من المنظومات في السيرة النبوية، والغزوات، والأنساب، والمتشابه من ألفاظ القرآن، وشيئًا من المتون في الفقه نثرًا ورجزًا.
الشنقيطي.. عمله وسفره إلى الحج
تصدى الشيخ الشنقيطي في بلاده للتدريس والفتيا والقضاء، حيث كان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود، وقد علا قدره وذاع صيته، وعظمت منزلته بين الخاص والعام والقاصي والداني، وصار علمًا من أعلام البلاد، وموضعًا لثقة الجميع، بعد ذلك خرج الشيخ من بلاده في سنة 1367ه، وقصد مكة لأداء مناسك الحج، في رحلة كانت حافلة بالفوائد والمباحثات العلمية القيّمة، وبعد فراغه من مناسك الحج توجه صوب المدينة النبوية، وعزم على البقاء والاستقرار فيها، وعمل مدرسًا في التفسير، وكان رحمه الله يقول: "ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد كان لاستقراره في هذه البلاد أثر ظاهر في زيادة اطلاعه، وتوسيع دائرة علمه.
زهد الشنقيطي وورعه
كان الشيخ الشنقيطي رحمه الله مجانبًا أعمال السفهاء من التكالب على الدنيا، والتنافس عليها، والتشاغل بها عن الله والدار الآخرة، حيث كان لا يبقي عنده من المال إلا ما يكفيه، ويوزع ما زاد على ذلك على فقراء الطلبة والعجزة والأرامل من قرابته، ومن بين محاسنه التي تدل على ورعه وزهده أنه كان لا يبيع كتبه التي ألفها، وكان يقول: "علم نتعب عليه ويباع وأنا حي؟ لا يمكن هذا... وأنا أعلم أنه سيصل إلى من لا يستحقه، ولكن سيصل أيضًا إلى من لا يستطيع الحصول عليه بالفلوس"، وكان رحمه الله يقول: " لقد جئت من البلاد ومعي كنز قلَّ أنْ يوجد عند أحد، وهو القناعة، ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها، فإني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية".
وقد غلب عليه رحمه الله في السنوات الأخيرة من حياته التحرز الشديد من الفتيا والتباعد عنها، وكان إذا اضطره أحد إلى الجواب يقول: "لا أتحمل في ذمتي شيئًا، العلماء يقولون كذا وكذا"، ولما سئل عن ذلك أجاب بقوله: "إن الإنسان في عافية ما لم يبتل، والسؤال ابتلاء؛ لأنك تقول عن الله ولا تدري أتصيب حكم الله أم لا؟ فما لم يكن عليه نص قاطع من كتاب الله أو سُّنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب التحفظ فيه"، كما لم يكن رحمه الله ممن يأنف من إعلان رجوعه إلى الحق إذا تبين له ولو كان القول الذي رجع عنه قد أذاعه ونشره وانتصر له سنين متطاولة.
الشنقيطي.. مؤلفاته ومصنفاته
ترك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي مجموعة من المؤلفات في الفقه والتفسير والمنطق والأنساب وغير ذلك، منها: نظم في أنساب العرب، سماه خالص الجمان في ذكر أنساب بني عدنان، ومنها رجز في فروع مذهب مالك يختص بالعقود من البيوع والرهون، ومنها ألفية في المنطق ونظم في الفرائض، ومنها رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، ومنع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وآداب البحث والمناظرة، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وغير ذلك من الكتب، ويُعد تفسير الشنقيطي متميزًا في بابه، حيث أودعه علومًا نافعة ومسائل محققَّة.
وفاة الشيخ الشنقيطي
توفي الشيخ الشنقيطي رحمه الله بمنزله في مكة المكرمة ضحى يوم الخميس، السابع عشر من شهر ذي الحجة، عام 1393هـ= 1973م، وكان قد صلى عليه الشيخ عبد العزيز بن باز بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم، ودفن بمقبرة المعلاة بريع الحجون، فرحمه الله رحمة واسعة[1].
[1] محمد الأمين الشنقيطي: العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير، تحقيق: خالد السبت، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، الطبعة الثانية، 1426هـ، 1/ 1- 44، والموسوعة العربية العالمية / 1.
التعليقات
إرسال تعليقك