الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الأزهر مسجد جامع وجامعة، كان ولا يزال أبرز المؤسسات الإسلامية، وكعبةً يحج إليها الطلاب والعلماء من كافة أقطار الأرض ينهلون من علمه ويقتبسون من نوره.
كان الأزهر من غرس الدولة الفاطمية، أينع ثمره، وتجددت نضرته على كر العصور، وما زال بعد ألف عام أعظم الآثار الباقية التي خلفتها الدول الإسلامية بمصر، فالأزهر مسجد جامع وجامعة، كان ولا يزال أبرز المؤسسات الإسلامية في العالم، وكعبةً يحج إليها الطلاب والعلماء وعوام الناس من كافة أقطار الأرض ينهلون من علمه ويقتبسون من نوره، بدأ تاريخه سنة 361هـ= 972م، ومنذ تأسيسه وحتى اليوم لا يزال يقوم بدور رائع عظيم الأثر في الفكر الإسلامي، بل والفكر الإنساني، وإليه يرجع فضل عظيم في حفظ الثقافة العربية والإسلامية، كما يعتبر الأزهر منارة ومركز إشعاع روحي ينهض لتأدية رسالته النبيلة فتفيد منه شعوب العالم الإسلامي، كما يغترف من علومه الآلاف من الطلاب والباحثين.
وقد لبث الأزهر خلال حياته الطويلة الحافلة موضع العناية والرعايا من الخلفاء والسلاطين والأمراء، يتعهدونه بالتجديد والإصلاح والنفقة المستمرة، ولم يحظى جامع آخر من جوامع مصر التاريخية بمثل ما حظي به الأزهر من رعاية، وقد يرجع أكبر الفضل في ذلك إلى ما يتمتع به الأزهر من الصفات العلمية إلى جانب صفته الدينية، ومازال الجامع الأزهر بفضل هذه الرعاية المستمرة يحتفظ بفخامته ورونقه بالرغم من عمره الألفي، وقد عرفته الأجيال المتعاقبة الأزهر معهدًا للقراءة والدروس، كما عرفته دائمًا مسجدًا جامعًا.
الأزهر... منارة العلم
في 17 شعبان سنة 358هـ= 7 يوليو سنة 969م كان الفتح الفاطمي لمصر في عهد المعز لدين الله رابع الخلفاء العُبيديين بالمغرب بقيادة جوهر الصِّقلي، بعد ذلك ببضعة شهور وتحديدًا في 24 من جمادى الأولى سنة 359هـ= أبريل سنة 970م تم العمل في إنشاء الجامع الأزهر الذي استغرق بنائه عامين وثلاثة أشهر، حيث أُفتتح للصلاة في يوم الجمعة 7 رمضان سنة 361هـ= 972م، وبما أنَّ الدولة الفاطمية كانت دولة شيعية المذهب جُعل الجامع الأزهر رمزًا ومنبرًا للدعوة الشيعية التي ينضوي الفاطميون تحت لوائها.
وقد سمي الجامع الأزهر في البداية بجامع القاهرة، وأما أصل تسميته بالجامع الأزهر فأنها ترجع كما قيل: إلى اسم السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي التي يرجع الفاطميون نسبتهم إليها، وهناك حقيقة تاريخية تشير إلى أنَّ الجامع الأزهر لم يُنشأ في الأصل ليكون جامعة أو معهدًا للدرس، وإنما أُنشئ ليكون مسجدًا رسميًا للدولة الفاطمية في حاضرتها الجديدة، ومنبرًا لدعوتها الدينية، ورمزًا لسيادتها الروحية، أما فكرة الدراسة في الأزهر فقد كانت حدثًا عارضًا ترتب على فكرة الدعوة المذهبية، وغلب الحدث العارض شيئًا فشيئًا على صفته الأولى حتى أسبغ عليه ثوبه الجامعي الخالد.
فُتحتْ أبواب الجامع الأزهر لدراسة العلوم الدينية والعقلية في عهد الخليفة العزيز بالله (365- 386هـ= 976- 996م)، واستجلب له الفاطميين خيرة فقهاء وعلماء الدعوة الشيعية وقضاتها، وأغدقوا عليهم المال، ونقلوا إليه كثيرًا من الكتب، وشجعوا طلاب العلم من البلاد الإسلامية الأخرى للالتحاق به، وقد تعهد الخلفاء الفاطميون الجامع الأزهر بالتجديد والعمارة في فرص عدة، حيث كانوا بين الحين والآخر يجرون توسعًا في مبانيه للدراسة، وأروقة للطلا، ومساكن للأساتذة، وخصصوا أموالًا ثابتة للإنفاق على الجامع الأزهر، كما أسهم كثير من رجال الدولة والأمراء وأهل البر في تخصيص جزء من أموالهم لتنفق على الطلاب والأساتذة وبقية شؤون الأزهر، الذي اشتهر نتيجة لهذا الاهتمام، وارتبط اسمه برسالة العلم وأصبح جامعة كبيرة.
لبث الجامع الأزهر في ظل الدولة الفاطمية يتمتع بالرعاية الرسمية زهاء قرنين من الزمان، وقد بقي على هذا النحو حتى سقطت الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي عام 567هـ= 1171م، بعد أكثر من قرنين كان الأزهر فيهما محط اهتمام الدارسين والمتفقهين في المذهب الشيعي.
تغير حال الأزهر في عهد الأيوبيين، إذ كانوا من أهل السنة، ولذا حاولوا محو كل أثر للفاطميين الشيعة، فأوقف صلاح الدين الخطبة والصلاة في الجامع الأزهر وقطع عنه كثيرًا مما أوقفه عليه حكام الدولة الفاطمية، وعلى الرغم من ذلك لم يفقد الأزهر صفته الجامعية، وظل محتفظًا بصفته كمعهد للدرس والقراءة، وظلت أبوابه مفتوحة لكل الطلاب، ويُدرَّس فيه الفقه السني على المذاهب الأربعة، بل كان مسرحًا لنشاط بعض أعلام الفكر والأدب، ومقصد الطلاب من كل صوب، حيث كان يقطن في أروقته منهم عدد كبير.
ومضى صلاح الدين إلى جوار ربه وجاء من بعده عدد من السلاطين وانقضى أمر الدولة الأيوبية بالكامل وتلتها دولة المماليك (648- 922هـ= 1250- 1517م) التي حدث فيها إحياء للجامع الأزهر لاسيما في عهد الظاهر بيبرس الذي أعاد الخطبة إليه عام 665هـ= 1267م، بعد أن تعطلت نحو مائة عام من سنة 567هـ= إلى سنة 665ه، وقد أقيمت صلاة الجمعة بالجامع الأزهر يوم الجمعة 18 ربيع الأول سنة 665هـ في حفل من الأمراء والأكابر، وكان يومًا مشهودًا استعاد فيه الأزهر مركزه الديني القديم، كما زاد الظاهر في بناء الأزهر وشجع على التعليم فيه، وحذا حذوه كثير من الأمراء.
لذلك استعاد الأزهر مكانته العلمية في العصر المملوكي، وغدا كعبة الأساتذة والطلاب من سائر أنحاء العالم الإسلامي، وغدا أعظم مركز للدراسات الإسلامية العامة، وتبوأ نوعًا من الزعامة الفكرية والثقافية، بل كان يتمتع في ظل دولة المماليك برعاية خاصة، وكان الأكابر من علمائه يتمتعون بالجاه والنفوذ ويشغلون مناصب القضاء العليا، ويستأثرون بمراكز التوجيه والإرشاد، وكان هذا النفوذ يصل أحيانًا إلى التأثير في سياسة الدولة العليا، وأحيانًا في مصاير العرش والسلطان، وربما كانت هذه الفترة في الواقع هي عصر الأزهر الذهبي من حيث الإنتاج العلمي ومن حيث تبوئه لمركز الزعامة والنفوذ.
وفي أواخر العهد المملوكي أخذت الحركة الفكرية في مصر في الاضمحلال، وذلك تبعًا لاضمحلال الدولة المملوكية التي قد شاخت وأخذت تسير نحو الانهيار بخطى سريعة، ولم يمضي قليل على ذلك حتى فقدت دولة المماليك استقلالها على يد العثمانيين في سنة 922هـ= 1517م.
وفي العهد العثماني (922هـ= 1517م- 1220هـ= 1805م) أفل نجم الأزهر وأصابه ما أصاب الحركة الفكرية كلها من الانحلال والتدهور، واختفى من حلقاته كثير من العلوم التي كانت زاهرة به من قبل، ومع ذلك استطاع الأزهر في العهد العثماني أن يستبقي شيئًا من مكانته وأن يؤثر في نفوس العثمانيين أنفسهم، حيث كان السلطان العثماني يتبرك بالصلاة فيه، وقد سجل التاريخ بعض مظاهر الاهتمام العثماني بالأزهر الذي ظل ملاذًا أخيرًا لطلاب العلم من سائر أنحاء العلم الإسلامي، ومعقلًا حصينًا لعلوم الدين واللغة، واستطاع المحافظة على التراث نحو ثلاثة قرون حتى انقضى العصر العثماني.
وقد شهد الأزهر بعض التجديد في عهد محمد علي باشا وأسرته من بعده، حيث نشأت بمصر حركة ثقافية جديدة في تلك الحقبة، وظهرت على إثرها طبقة من المفكرين والعلماء والأدباء الذين أخذوا بقسط بارز من العلوم الحديثة، وقد عنى محمد علي بإرسال بعثات من الطلبة المصريين إلى أوروبا ليتلقوا ثقافتها وعلومها الرفيعة، ولم يكن الأزهر بعيدًا كل البعد عن هذه البعثات، فقد كان بين طلابها عدد من أبناء الأزهر مثل رفاعة الطهطاوي، وإبراهيم النبراوي، وأحمد حسن الرشيدي، وغيرهم ممن تلقوا دراستهم الأولى بالأزهر، كذلك كان لأبناء الأزهر أعظم فضل في إخراج الموسوعات والمصنفات العربية والإسلامية، والتي كان إخراجها من أعظم العوامل في إحياء الأدب العربي القديم.
ولكن مع ذلك بقي الأزهر بمعزل عن هذه المؤثرات والاتجاهات الفكرية الجديدة قانعًا بدراسته ومناهجه القديمة، واستطاع الأزهر أن يحتفظ ببقية من تلك الجذوة القديمة، وأن يحتفظ بامتيازه القديم كمركز لعلوم الدين واللغة.
وقد حفل التاريخ المصري الحديث بجهود كبيرة لإصلاح الأزهر، ففي بداية عصر إسماعيل، وتحديدًا في سنة 1288هـ= 1872م صدر أول قانون نظامي للدراسة بالأزهر، ونظم هذا القانون طريقة الحصول على الشهادة العالمية، وقرر أن تكون المواد التي يمتحن فيها الطلاب: الأصول والفقه والتوحيد والحديث والتفسير والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق، ولم يكن للأزهر قبل صدور هذا القانون شهادات دراسية معينة تمنح للطلاب اللهم إلا الإجازة التقليدية التي كان يمنحها أكابر العلماء للطلاب، أو يمنحها الأستاذ لتلميذه في مادة معينة أو كتاب معين متى أتم الطالب دراسة هذه المادة أو حفظ هذا الكتاب.
وفي سنة 1896م أضيفت إلى مواد الدراسة طائفة من المواد الجديدة: مثل مادة الأخلاق ومصطلح الحديث، والحساب والجبر والعروض والقافية، وجُعل التاريخ الإسلامي والإنشاء ومتن اللغة ومبادئ الهندسة وتقويم البلدان، مواد يفضل المشتغل بها على غيره.
وفي سنة 1911م صدر قانون جديد للأزهر ينظم الدراسة على أسس جديدة، وبمقتضاه قُسمت الدراسة إلى مراحل لكل مرحلة منها نظام ومواد خاصة، وأُنشئت معاهد دينية جديدة في بعض عواصم المديريات، وأضاف هذا القانون إلى مواد الدراسة مواد جديدة هي التاريخ والجغرافيا والرياضة ومبادئ الطبيعة والكمياء، وفي سنة 1930م صدر قانون جديد تضمن إنشاء ما يسمى بالجامعة الأزهرية، وقُسم التعليم العالي بالأزهر وفقًا لهذا القانون إلى ثلاث كليات: كلية أصول الدين وكلية الشريعة وكلية اللغة العربية.
وفي سنة 1936م صدر قانون جديد بالأزهر جُعلت فيه مراحل التعليم بالأزهر أربع، هي مرحلة التعليم الابتدائي ومدته أربع سنوات، والثانوي ومدته خمس سنوات، والعالي وهو الدراسة في إحدى الكليات ومدته أربع سنوات، وأما المرحلة الرابعة فتنقسم على قسمين: الأول أقسام الإجازات لإعداد الطلبة للحصول على الشهادة العالمية، والثاني أقسام التخصص في المادة لإعداد الطلبة للحصول على الشهادة العالمية من درجة أستاذ.
وفي سنة ١٩٦١م دخل الأزهر في طور جديد من تاريخه، إذ صدر القانون الذي حوله إلى جامعة حديثة تحتفظ في نفس الوقت بالدراسات التقليدية للأزهر وهي دراسات الإسلام واللغة العربية، وأنشئت له الكليات الحديثة وتضاعف عدد طلابه حتى أصبح مؤسسة دينية علمية فريدة في بابها من كل وجه، ولا يضارع الأزهر معهد آخر في الدنيا في الخدمات العلمية التي قام بها منذ إنشائه قبل نيف وألف سنة إلى اليوم، فقد كانت وفود الطلبة تقبل عليه من أركان الدنيا كلها فيجاورون في الأزهر ثم يعودون إلى بلادهم شيوخًا يقومون بدورهم بإنشاء المعاهد الدينية الإسلامية في بلادهم، وحيثما نزلت في العالم الإسلامي وجدت الأزهريين من أقصى الفليبين إلى المحيط الأطلسي وقلب إفريقية.
إلى الأزهر يعود جانب كبير من الفضل فيما تمتعت به مصر على مر العصور كمركز من مراكز العلم والعرفان في الدنيا، وقد كان عدد كبير ممن قاموا بالنهضة الفكرية في مصر والعالم العربي من طلاب الأزهر وهم كثيرون جدًا، ولكن على سبيل المثال لا الحصر سنكتفي بالإشارة إلى نفر منهم مثل: عبد الرحمن الجبرتي ورفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده وسعد زغلول ورشيد رضا وعبد الله النديم وطه حسين ومصطفى لطفي المنفلوطي وأحمد حسن الزيات وعلي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق ومحمد مصطفى المراغي[1].
[1] محمد عبد الله عنان: تاريخ الجامع الأزهر، الطبعة الأولى، 1361هـ= 1942م، وحسين مؤنس: المساجد، ص176- 180، والموسوعة العربية العالمية.
التعليقات
إرسال تعليقك