جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
في مدينة يافا، يوم 7 مارس 1799م ارتكب نابليون بونابرت واحدة من أبشع جرائمه، مما جعل المؤرِّخ الإنجليزي ماكلين يعلق على هذا الحدث بقوله: «هذه مجزرة فاحشة...
بعدما توجهت الحملة الفرنسية لمصر واحتلتها بقيادة نابليون بونابرت، وقَّع السلطان العثماني اتفاقيَّة دفاع مع الروس والإنجليز لمواجهة الحملة التي كانت قادرة على احتلال الشام، وربما إسطنبول، وبدأ تجميع الجيوش العثمانية والروسية والإنجليزية في دمشق وجزيرة رودس، ووصلت الأخبار إلى نابليون في مصر الذي بدوره أدرك أنه لو انتظر في مكانه فستُباغته هذه القوات في مصر، فقرَّر أن يمتلك زمام المبادرة، وانطلق بسرعةٍ لاحتلال فلسطين بغية الوصول إلى الشام؛ وذلك ليقطع الطريق على الجيوش البرِّيَّة التي ستتوجَّه إليه في مصر، ولينقل المعركة إلى أرضٍ أخرى أبعد من مصر؛ بحيث يُعطي لنفسه الفرصة للانسحاب إليها في حال الهزيمة، وفوق كلِّ ذلك فهو سيستفيد من عنصر المباغتة.
ترك نابليون أكثر من نصف جيشه في مصر، وانطلق بثلاثة عشر ألف جندي إلى فلسطين عبر سيناء، وفي 12 فبراير 1799م احتلَّ العريش، وفي 25 فبراير احتلَّ غزة، ثم وصل نابليون في 3 مارس إلى يافا، وفيها ارتكب واحدةً من أبشع جرائمه! حيث حاصر نابليون المدينة مدَّة أربعة أيَّام، وبعد تواصلٍ مع الحامية العثمانية بالداخل قَبِلَت الحامية بالاستسلام في مقابل تأمين أرواحها.
في يوم 7 مارس 1799م دخل الجيش الفرنسي المدينة وغَدَرَ نابليون وقَتَل الأسرى جميعًا! ليس هذا فقط بل انقلب على المدنيِّين فقتل الرجال والنساء والأطفال، وصل عدد القتلى إلى أربعة آلاف وستمائة قتيل! قتل نابليون ألفين وأربعمائة وواحد وأربعين واحدًا من هؤلاء طعنًا بالحراب توفيرًا للطلقات الناريَّة!
يُعَلِّق المؤرِّخ الإنجليزي فرانك ماكلين على هذا الحدث بقوله: «هذه مجزرة فاحشة... إن ما ارتكبه نابليون في يافا هو جريمة حربٍ بكلِّ المقاييس»! أمَّا المؤرخ الأميركي چين كريستوفر هيرولد فينقل شهادة أحد القادة الفرنسيين الذين شاهدوا المجزرة، وهو الميچور ديتروي الذي قال: «خلال مساء هذا اليوم، وصباح اليوم التالي، قتل الجنود الفرنسيون الهائجون الرجال، والنساء، والأطفال، من المسيحيين، والمسلمين؛ أيُّ جسمٍ يحمل وجه إنسانٍ كان يقع ضحيَّةً لغضب الجنود»!
ثم يُعلِّق المؤرخ هيرولد على هذه الشهادة بقوله: «هذه شهادة عيان تصف المشهد المقرف، وما زالت الصفحات ترتعش من الصدمة والخجل»! ثم ينقل هيرولد عدَّة مشاهد مفجعة لحوادث قتلٍ شرسة، أو اغتصابٍ لفتياتٍ صغيراتٍ معلَّقاتٍ بأجساد أمهاتهنَّ المقتولات، كما ينقل استمتاع الجنود الفرنسيين بقتل الرجل أو المرأة بعد سماع كلمات التوسُّل والاسترحام. يقول هيرولد: «إن هذه التصرُّفات من الجنود الفرنسيين تحتاج إلى دراسةٍ من الأطبَّاء النفسيِّين لا من المؤرِّخين»! جديرٌ بالذكر أن هيرولد أطلق على الفصل الذي شرح فيه حملة نابليون على الشام هذا العنوان: «الجزَّارون في الأرض المقدَّسة»!
إن التاريخ الإسلامي ليفخر أنه لا يحوي صورةً مثل هذه ولا قريبًا منها، وذلك على الرغم من مئات المعارك الضارية التي قادها المسلمين ضدَّ أعداءٍ شرسين على جبهاتٍ متعدِّدة. إن العداء للأمم المحارِبة لم يدفع المسلمين قط إلى التخلي عن إنسانيَّتهم، ولم يشهد تاريخُنا قائدًا مريضًا كنابليون، ولا جيشًا وحشيًّا كجيش الفرنسيين![1].
[1] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 955، 956.
التعليقات
إرسال تعليقك