التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ينظر بعض المؤرخين إلى الفتوح الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة على أنها مجرد حروب عسكرية ناجحة، والواقع أن انتصار المسلمين آنذاك أمر في عداد المعجزة!
معجزة الفتوح الإسلامية.. الأسباب والنتائج:
ينظر بعض المؤرِّخين إلى الفتوح الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة على أنها مجرد حروب عسكرية ناجحة ساعدت فيها ظروف كثيرة، بل إن بعضهم يُسْهِب في وصف مظاهر ضعف الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية في ذلك الوقت كتبرير لسقوطهما أمام الجيوش الإسلامية سقوطًا مزريًا في معظم المعارك. والواقع أن انتصار المسلمين على إحدى الإمبراطوريتين العظميين في العالم آنذاك هو أمر خارق للعادة، أمَّا انتصار المسلمين على الإمبراطوريتين معًا، وفي وقت متزامن، فهو في عداد المعجزة بلا جدال!
إن المعجزة لا تخضع للمقاييس البشرية العادية مهما بَالَغَتْ هذه المقاييس، فهي أمر ربانيٌّ لا يُفْهَم على وجه الحقيقة إلا بالإيمان بأن الله هو الفاعل، وأن النصر من عنده وحده؛ لذلك حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على لفت النظر إلى حدوث هذه الفتوح مستقبلًا، واعتبر حدوث هذه الفتوح دليلًا على صدق النبوَّة؛ لأنها أمور لا يفعلها إلا إله قادر، ولا دخل للبشر بمثل هذه النتائج. ورد ذلك في أكثر من حديث له صلى الله عليه وسلم.
بَشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد فارس العظيمة. عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ -أَوْ مِنَ المُؤْمِنِينَ- كَنْزَ آلِ كِسْرَى الَّذِي فِي الْأَبْيَضِ»[1]. وفي أحاديث أخرى لم يكتفِ بالتبشير بفتح فارس إنما بشَّر بفتح مدنٍ معيَّنة كالحيرة! كان هذا في حواره صلى الله عليه وسلم مع عدي بن حاتم رضي الله عنه إذ قال له: «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ[2] تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ[3]، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهَ، -قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ[4] طَيِّئٍ[5] الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا[6] البِلاَدَ- وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى[7]». قُلْتُ: كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟ قَالَ: «كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ»[8].
وبشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح الشام، بل وتأصُّل الإسلام فيها حتى تصير عقرًا لدار المؤمنين! يقول هذا في الوقت الذي كانت الشام فيه مملوكة بالكامل للإمبراطورية الرومانية الكبرى! جاء هذا في أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه سَلَمَةُ بْنُ نُفَيْلٍ رضي الله عنه من أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «.. لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، يَزْيِغُ اللهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَيَرْزُقُهُمُ اللهُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عز وجل وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا إِنَّ عُقْرَ دَارِ المُؤْمِنِينَ الشَّامُ..»[9].
وبشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم باغتنام كنوز كسرى وقيصر، فعَنْ أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ»[10].
وبشَّر كذلك بفتح مصر الواقعة تحت الاحتلال الروماني آنذاك؛ فعن أَبِي ذر رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا..»[11].
لم تكن هناك بالقياسات المادية أيُّ دلالة على حدوث هذه البشريات، بل بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الفتوح والمسلمون محصورون في غزوة الخندق! فعَنِ البراء بن عازب قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ». فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا». ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ». وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا». ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ». وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا»[12]!
وأكثر من ذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشَّر بالفتوح بترتيبها الزمني الذي تحقَّق بعد ذلك! فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، فَوَافَقُوهُ عِنْدَ أَكَمَةٍ[13]، فَإِنَّهُمْ لَقِيَامٌ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ، قَالَ: فَقَالَتْ لِي نَفْسِي: ائْتِهِمْ فَقُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لَا يَغْتَالُونَهُ. قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: لَعَلَّهُ نَجِيٌّ مَعَهُمْ[14]. فَأَتَيْتُهُمْ فَقُمْتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَحَفِظْتُ مِنْهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، أَعُدُّهُنَّ فِي يَدِي، قَالَ: «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللهُ». قَالَ: فَقَالَ نَافِعٌ: يَا جَابِرُ، لَا نَرَى الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ[15].
الجميل أن المسلمين الفاتحين كانوا يدركون أنهم في إطار معجزة لا تتعامل مع الواقع بمقاييس المادة، ولا بحسابات الورقة والقلم، وقد ظهر ذلك في كلماتهم ورسائلهم، فهذا عمر رضي الله عنه يرسل إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالقادسية فيقول له وهو يُعَلِّق النصرَ كلَّه على الله تعالى: «وقد أُلْقِي فِي رَوْعِي أَنَّكُمْ إِذَا لَقِيتُمُ الْعَدُوَّ هَزَمتُمُوهُمْ، فإن مَنَحَكَ اللهُ أَكْتَافَهُمْ فلا تَنْزَعْ عَنْهُمْ حَتَّى تَقْتَحِمَ عَلَيْهِمُ الْمَدَائِنَ، فَإِنَّهُ خَرَابُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»[16]. وهذا سَلَمَة بن قيس الأشجعي رضي الله عنه يصف معركة ضد الفرس فيقول ناسبًا النصر إلى الله تعالى: «فَقَاتَلْنَاهُمْ فَنَصَرَنَا اللهُ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَيْنَا الذُّرِّيَّةَ»[17]. وهذا متكرِّر بكثرة في وصف الفتوح كلِّها.
هذه هي معجزة الفتوح الإسلامية!
ومع كون الأمر معجز حقًّا إلا أن الله تعالى يجعل له بعض الأسباب الظاهرة، لكي يتمكَّن المسلمون من تكرار التجربة في أزمانهم المختلفة؛ أعني تكرار النصر في ظروف مشابهة. يمكن أن نرصد من هذه الأسباب أربعة.
السبب الأول هو التأييد الرباني الظاهر؛ إن الله في كتابه ينسب النصر لنفسه دومًا، وذلك على غرار قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال: 17]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126]، وقوله أيضًا: ﴿وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 13]، وقوله: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران: 160]. هذا التأييد الرباني لا يتأتَّى للمسلمين بصورة مطَّردة، كتلك التي رأيناها في الفتوح، إلا عندما يُحَقِّق المسلمون ثلاثة أمور؛ الأول هو شرعية سبب الفتح فلا يظلمون أحدًا بالتعدِّي عليه بغير وجه حقٍّ، والثاني هو شرعية ممارسة القتال، فيلتزمون بالضوابط الشرعية الأخلاقية للمسلمين في الحروب، والثالث هو إدارة البلاد المفتوحة بالأخلاق الإسلامية الرفيعة؛ كالعدل، والأمانة، والرحمة، والعفَّة. إذا تحقَّقت هذه الأمور الثلاثة جاء المدد الرباني، وتحقَّقت المعجزة الخالدة، وإذا خالف المسلمون في واحد من هذه الأمور أو أكثر فشل الفتح ولم يتحقَّق المقصود، وترك اللهُ المسلمين وعدوهم لمقاييس المادَّة وحسابات البشر، وعندها يتغلَّب أعداء المسلمين عليهم لكثرتهم دومًا، وتفوقهم في السلاح والمال. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أثناء فتوح العراق: «أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي آمُرُكَ، وَمَنْ مَعَكَ مِنَ الأَجْنَادِ بِتَقْوَى اللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِن تقوى الله أفضل العدَّة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك، ومن معك، أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي من احتراسكم من عَدوكُمْ، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله؛ ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لِأَنَّ عَدَدَنَا لَيْسَ كَعَدَدِهِمْ، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا لم نُنْصَرْ عَلَيْهِمْ بفضلنا، ولم نَغْلِبْهُمْ بِقُوَّتِنَا»[18].
السبب الثاني للنصر الدائم في الفتوح هو طبيعة المقاتل المسلم آنذاك؛ لقد تميَّز هذا المقاتل -إلى جوار صفات الجنديَّة المعروفة- بصفتين من النادر أن تجدهما في جيش من جيوش الأرض؛ وهما حبُّه للموت في سبيل الله، وحبُّه لإخوانه المقاتلين معه! كدليل على الصفة الأولى يمكن أن نقرأ كلمة خالد بن الوليد رضي الله عنه في رسالته إلى بعض قادة الفرس حيث قال لهم: «مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى مَرَازِبَةِ أَهْلِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَالْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي فَضَّ خَدَمَتَكُمْ وَسَلَبَ مُلْكَكُمْ، وَوَهَّنَ كَيْدَكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا، أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي فَابْعَثُوا إِلَيَّ بِالرُّهُنِ، وَاعْتَقِدُوا مِنِّي الذِّمَّةَ، وَإِلَّا فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ قَوْمًا يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْتُمُ الْحَيَاةَ. فَلَمَّا قَرَأُوا الْكِتَابَ أَخَذُوا يَتَعَجَّبُونَ»[19]! أمَّا الصفة الثانية فيمكن رؤيتها في سؤال طرحه طليحة خويلد الأسدي على أحد رجاله عندما رأى كَثْرَةَ انْهِزَامِ أَصْحَابِهِ؛ قَالَ: وَيْلَكُمْ مَا يَهْزِمُكُمْ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَأَنَا أُحَدِّثُكَ مَا يَهْزِمُنَا؛ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَّا رَجُلٌ إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ صَاحِبُهُ قَبْلَهُ، وَإِنَّا لَنَلْقَى قَوْمًا كُلُّهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ»[20]! كان من السهل على جيش يتَّصف بهاتين الصفتين العجيبتين أن ينتصر على أيِّ جيش يقابله، لأن الجنود في المعتاد يكونون على عكسهما، فمعظم جيوش العالم تسعى للحفاظ على الحياة لا للإقبال على الموت، ومعظم أفرادها كذلك يُبْدِي حبًّا لمصلحته فوق مصلحة زملائه.
السبب الثالث في تحقيق النصر المتكرِّر في الفتوح الإسلامية هو التزام جيوش المسلمين بالآداب والأخلاق الإسلامية، وهذا فتح لها قلوب الشعوب، فكان استقبال هذه الشعوب للجيوش الفاتحة مختلفًا تمامًا عن استقبالها لأي جيش آخر. لا ننسى أن هذه الشعوب في معظمها كانت محتلَّة من أمم أخرى؛ فالعراق كان محتلًّا من الفرس، والشام، ومصر، وشمال إفريقيا كانت محتلَّة من الروم، وكانت هذه الاحتلالات قد مرَّ عليها مئات السنين، وألِف الناس الظلمَ والقهرَ والإكراه على شتى الأمور بما فيها العقيدة، فجاء الجيش المسلم بنسق جديد، وطريقة فريدة، وعامل الشعوب بأساليب إنسانية حضارية لا يعرفونها، ولم يتعرَّضوا قط لدينهم، ولم يتجاوزوا في فرض الضرائب عليهم، بل كانت الجزية المضروبة على الشعوب أقلَّ من أي ضريبة فُرِضَت عليهم في تاريخهم، بل كانت أقلَّ من الزكاة التي يدفعها المسلمون! كذلك تعامل المسلمون في حكمهم بالعدل والرحمة، ولم يُفَرِّقوا في أحكامهم بين المسلمين وغير المسلمين، ولم تشعر الشعوب قط بالرغبات التوسعيَّة التي كانوا يعرفونها من الجيوش المحتلَّة لهم قبل ذلك، بل كان دخول بعض هذه الشعوب في الإسلام أحبَّ إلى المسلمين من أرضهم وأموالهم.هذا السلوك الإسلامي الفريد جعل الشعوب تتعاون مع المسلمين بإخلاص ضد الإمبراطوريات الظالمة التي قهرتهم على مدار السنين.
يمكن أن نفهم سياسة الجيوش الإسلامية الفاتحة في هذه الفترة العظيمة من تاريخ الأمَّة من خلال النصائح العميقة التي وجَّهها أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأحد قوداه الكرام، وهو يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهو في طريقه لفتح الشام. قال صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: لَمَّا بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى الشَّامِ عَلَى رُبْعٍ مِنَ الْأَرْبَاعِ[21]، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَعَهُ يُوصِيهِ، وَيَزِيدُ رَاكِبٌ وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِي، فَقَالَ يَزِيدُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ. فَقَالَ: «مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ، إِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، يَا يَزِيدُ إِنَّكُمْ سَتَقْدَمُونَ بِلَادًا تُؤْتَوْنَ فِيهَا بِأَصْنَافٍ مِنَ الطَّعَامِ، فَسَمُّوا اللهَ عَلَى أَوَّلِهَا، وَاحْمَدُوهُ عَلَى آخِرِهَا، وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ الصَّوَامِعِ فَاتْرُكُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ[22]، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدِ اتَّخَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى رُءُوسِهِمْ مَقَاعِدَ -يَعْنِي الشَّمَامِسَةَ- فَاضْرِبُوا تِلْكَ الْأَعْنَاقَ[23]، وَلَا تَقْتُلُوا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا وَلِيدًا، وَلَا تُخْرِبُوا عُمْرَانًا، وَلَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا لِنَفْعٍ، وَلَا تَعْقِرُنَّ بَهِيمَةً إِلَّا لِنَفْعٍ، وَلَا تَحْرِقُنَّ نَخْلًا، وَلَا تُغَرِّقُنَّهُ، وَلَا تَغْدِرْ، وَلَا تُمَثِّلْ، وَلَا تَجْبُنْ، وَلَا تَغْلُلْ، ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25]، أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ وَأُقْرِئُكَ السَّلَامَ». ثُمَّ انْصَرَفَ[24].
السبب الرابع والأخير هو الكفاءة الحربية المتميِّزة للمسلمين في قتالهم؛ فالخطة الموضوعة، والاستراتيجيات المستخدمة، وكفاءة الجنود في القتال والمناورة، واختيار أراضي القتال ومواعيده، كل ذلك كان على أعلى مستوًى ممكن، ومع ذلك فقد آثرتُ أن أجعل هذا السبب آخر الأسباب لأن الثلاثة الأُوَل أهمُّ، ولأن الجيوش الفارسية والرومانية كانت متميِّزة كذلك في هذه الجوانب العسكرية، بل كانت تفوق الجيوش الإسلامية فيها بمراحل، ولولا فضل الله على المسلمين ما تمكنوا من منازلة هذه الجيوش العملاقة شديدة المراس.
أمَّا آثار الفتوح الإسلامية فعجيبة! أرصد منها في هذا المختصر ثلاثة.
الأول هو سهولة الفتح! ففي غضون سنوات معدودات سقطت الإمبراطورية الفارسية بالكامل، وصارت مجرد جزء من الدولة المسلمة، وتجاوز المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين بلاد الإمبراطورية إلى ما بعدها من أراضي الترك وغيرهم. -أيضًا- سقطت قطاعات ضخمة من الأراضي التابعة للإمبراطورية الرومانية تحت سيطرة المسلمين. إن هذا الإنجاز العظيم كان يحتاج للعشرات من السنين كي يكتمل على هذا النحو المبهر.
الأثر الثاني هو دخول معظم هذه الشعوب في الإسلام بصورة لا يتخيلها إنسان؛ لقد صارت الشام، والعراق، ومصر، والسودان، ودول شمال إفريقيا، وإيران، هي بلاد الإسلام، مع أنها كانت تدين قبل الفتح بالنصرانية أو المجوسية. كيف تحوَّل الناس -دون إكراه أو جبر- إلى دين جديد، وعقيدة لا يعرفونها، هذا أمر يحتاج إلى دراسة عميقة. لقد رأى الناس الدين الموافق لفطرتهم، كما أحسن الصحابة والتابعون عرضَ هذا الدين على الشعوب، فكانت هذه النتيجة العجيبة. قد يقول قائل: إن هذا قد حدث في مناطق أخرى من العالم، كأميركا اللاتينية مثلًا، عندما تحوَّل سكانها إلى النصرانية الكاثوليكية بعد احتلال الإسبان والبرتغاليين لها، ولكن الفارق الأعظم بين الأمرين هو مسألة الإكراه، وراجعوا المصادر التي وصفت الوحشية الأوروبية في قهر شعوب أميركا على تغيير العقيدة لتعرفوا الفرق بين الفتوح الإسلامية والاستعمار الأوروبي[25].
التعليقات
إرسال تعليقك