التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ما الإسهامات العلمية في الأندلس وماذا تعرف عنها؟
الإسهامات العلمية في الأندلس
عندما نستعرض تاريخ الأندلس العريق لا شك أننا نشعر بالفخر والعظمة والمجد، وذلك منذ الخطوات الأولى للفتح، ومرورًا بالتكوين الثاني في عهد الإمارة الأمويَّة، ثم وصولًا إلى ذروة المجد في عهد الخلافة الأمويَّة، وليس فقط مجرَّد الشعور المعنوي هو ما نكتسبه من تاريخ الأندلس وحضارتها، بل يجب أن يدفعنا دفعًا حثيثًا إلى اقتفاء آثاره ودراسة سماته وخصائصه، لهذا سنتحدث في هذا المقال عن الإسهامات العلميَّة في الأندلس ببعض الإيجاز، وذلك من خلال النقاط التالية:
المؤسَّسات التعليميَّة.
العلوم الحياتيَّة والإنسانيَّة.
العلوم الشرعيَّة والعربيَّة.
1- المؤسسات التعليمية
لقد آثرتُ أن أبدأ الحديث عن حضارة الأندلس عامَّة بالتعليم؛ فالاهتمام به وتأسيسه على قواعد ومنهجيَّة واضحة دقيقة هو البداية الحتميَّة لأيِّ نظامٍ حضاريٍّ راقٍ يمكن أن يُحقِّق التأثير بل والخلود، وهذا ليس مجرَّد منهجًا بشريًّا مجرَّبًا نحذوه بل هو منهجٌ إلهي؛ فالأمَّة التي يبدأ دستورها بكلمة «اقرأ» يجب أن تُوقِن لا محالة أنَّ العلم والتعليم هو سبيلها، وهو المنهج الذي لا حيد عنه لتنهض وترقى، وهذا ما فعله كلُّ أسلافنا ممَّن أبهروا العالم بسرعة تطوُّرهم، وليس أدلَّ على هذا من شهاداتهم أنفسهم عن حضارتنا..
تقول زيجريد هونكه: «إنَّ هذه القفزة السريعة المدهشة في سُلَّمِ الحضارة -التي قفزها أبناء الصحراء، والتي بدأت من اللاشيء- لهي جديرةٌ بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني. وإنَّ انتصاراتهم العلميَّة المتلاحِقَة التي جعلتْ منهم سادةً للشعوب المتحضِّرَة لَفَريدةٌ من نوعها؛ لدرجةٍ تَجْعَلُهَا أعظم من أن تُقارَن بغيرها، وتدعونا أن نقف متأمِّلِينَ: كيف حدث هذا؟!»[1].
ففي البدأ كان العلم والتعليم! وهو السبيل للعود لا محالة!
وهذا ما فهمه كذلك الأندلسيُّون الأوائل، فنجد أنَّهم فور نزولهم الأرض الجديدة «الأندلس» لم يتوانوا لحظة عن إكمال مسيرة من قبلهم، فلقد ورث العرب المسلمون الوافدون على الأندلس الإرث العلمي والثقافي العربي المشرقي بالطبع، والمدهش في الأمر أنهم لم يكتفوا ويخملوا ويعتمدوا فقط على ما ورثوه أو أن يستوردوا من المشارقة الجديد وكفى؛ فمع استقرارهم في تلك الأرض الطيِّبة لم يلبثوا وأن أبدعوا وأضافوا إلى الحضارة الإسلاميَّة بل والإنسانيَّة قاطبة، وقد وضح ذلك الشغف العلمي بشكلٍ أكبر بعد استقرار أحوال البلاد سياسيًّا واجتماعيًّا وذلك في عهد عبد الرحمن الداخل وبدأ في الزيادة والتنامي الملحوظ والسريع في العصور التالية..
يقول جوستاف لوبون (Gustav Lebon): «ولم يَكَدِ العرب يُتِمُّونَ فتح إسبانيا حتى بدءوا يقومون برسالة الحضارة فيها؛ فاستطاعوا في أقلَّ من قرنٍ أن يُحْيُوا مَيِّتَ الأرضين، ويُعَمِّرُوا خراب المدن، ويُقيموا فخم المباني، ويُوَطِّدُوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرَّغون لدراسة العلوم والآداب، ويُتَرْجِمون كتب اليونان واللاتين، ويُنْشِئُون الجامعات التي ظَلَّتْ وحدها ملجأً للثقافة في أوروبا زمنًا طويلًا»[2].
والغريب في الأمر أنه حتى في عصور السقوط والاضمحلال الأندلسي لم يقل الشغف والاهتمام الثقافي والعلمي لدى الشعب الأندلسي، وقد يفسر بعض هذا الأمر الإشارة إلى أن الإرث الحضاري للأمم مرتبطٌ أكثر بالشعوب لا الحكومات، مع عدم إغفال الدور الكبير والتأثير الواضح إذا كان الحاكم مهتمًّا بالعلم ومشجِّعًا له؛ ولكن لهذه الملاحظة شواهد كثيرة في تاريخ أمَّتنا، نكتفي منها: أنه على -سبيل المثال- عند سيطرة التتار على العالم الإسلامي، لم يتوقف الإرث الحضاري للأمَّة بل ظهر حينها علماء أجلَّاء أضاءوا تاريخ البشريَّة في كلِّ المجالات، ومنهم: (ابن تيمية، والنووي، والعز بن عبد السلام، والذهبي، وابن أبي أصيبعة، وابن العطار، والخازن، وابن البنَّاء، وابن الرومية، وابن القس، وابن البيطار، وابن السراج، وابن القف، والقزويني، وابن النفيس، وابن منظور، وابن الأثير الجزري) رحمهم الله جميعًا، والقائمة تطول إلى حدٍّ قد لا يتصوَّره الكثيرون.. وهذه الملاحظة يمكن تطبيقها على أغلب الفترات الزمنيَّة لا سيَّما فترات الضعف والخمول..
ويعود هذا -في الأندلس خاصَّةً- إلى النظام التربوي التعليمي الذي أبدعه علماء الأندلس الكرام في نشأة الصبيان وإعدادهم على خوض غمار العلم بكلِّ فنونه.. فكانت البداية من الكتاتيب.
الكتاتيب:
لم يكن الكُتَّاب عند الأندلسيُّون بديلًا للمسجد أو حلقات العلم، ولكنَّهم استحدثوها لتكون أمكنةً مقصورةً على تعليم الأطفال والصبيان خاصَّةً؛ حرصًا منهم على رعاية حرمة بيوت الله وكراهةً أن يُساء إليها -ولو بغير قصد- من قبل الصبيان الذين «لا يتحفَّظون من النجاسات بأرجلهم ولا من ثيابهم»، على حد تعبير ابن عبدون.
ومن الواضح أن الكُتَّاب لم يكن مجرَّد تقليد للمشرق عند الأندلسيين؛ بل كان أحد أطر النظام التربوي المحكم الذي تطور شيئًا فشيئًا مع الأيام.. فكان الطفل إذا عقل سارع أبواه وبعثا به إلى المكتب، وكان هذا تقليدًا أخذ به أهل الأندلس واستحسنه علماؤهم..
وليس أدل على هذا البعد التربوي من أنهم اشترطوا للمؤدِّب فيها شروطًا عديدة، لمسئوليَّته المهمَّة في ترويض الصغار، ومنها: «ألَّا يكون عزبًا ولا شابًّا، بل يكون شيخًا خيِّرًا، ديِّنًا عفيفًا، وقليل الكلام والشهوة إلى استماع ما لا يعنيه، وأن لا يحضر الجنائز البعيدة، ولا يُكثر من البطالة، ولا يُهمل الصبيان، ولا يتغيَّب عنهم إلَّا لأخذ الغذاء والوضوء، ويكون راتبًا في مكانه، محافظًا على حوائج الصبيان».
وكانوا يراقبون تعليم أولادهم ويختبرون حقَّهم، ولا يقبلون عذر المؤدِّب إذا أهمل أو قصَّر... ويرون ضرورة استعمال السيرة في تعليم هؤلاء الصغار حتى يتعوَّدوا من صغرهم على العلم.
واهتمَّ علماء الأندلس بوضع القواعد اللازمة لتعليم الصبيان، ونعرض مثالًا لذلك، رسالة ابن العريف في طريقة تربية وتعليم الصغار، يقول فيها: «وليس على المعلم واجب أن يتولى كلُّ صبيٍّ بنفسه في كلِّ أوقاته وأحواله، فإن هذا غلوٌّ في حقِّه، وإنَّما عليه أن يتولَّى جميعهم بنظره ورأيه حتى لا ينصرف الصبي.. إذا أمكنه يتركه إلى الغفلة في بعض الأوقات فلا بد منها، ولا بد للمعلم أن يسمح لهم فيها، فإنها العون على وقت الشدة، والمجاهدة له ولهم... وإذا حضر مخالفة مع مولاه من بلاء نحوه فلا يستر عنهم، وليأخذ معهم في بعض أوقاته من العشيات ما أمكنه من الدعاء وفيما يحضره من حكايات العباد الزهاد والصالحين عندهم، وإحياء لما درس من ذكرهم وآثارهم وتَذْكِرةً لنفسه».
وكان من أشهر هذه الكتاتيب، التي بناها الخليفة الحكم المستنصر حول مسجد قرطبة، ويحكي عنها ابن شخيص بقوله: «كما ابتنى أزيد من عشرين مكتبًا حول مساجد أخرى في أرباض قرطبة، عيَّن في هذه وتلك طائفةً من المؤدِّبين يحفظون كتاب الله تعالى للصغار وبخاصَّةٍ أبناء الفقراء».
وقد استمر الاهتمام بها إلى آخر عهد الأندلس بالحكم الإسلامي؛ فقد عُرف عن سلاطين بني نصر ندب «الناس إلى تعليم القرآن لصبيانهم فذلك أصل دينهم»، وعُرف عنهم كذلك حرصهم -حتى مع اشتداد الحملة الصليبية على غرناطة- على أن يظل «الصبيان في المكاتب تُدرَّب على مواقف الشهادة وتُعلَّم».
ولم تكن الكتاتيب مقصورة على التعليم فقط بل كان لها دورٌ اجتماعي؛ فقد حرص المعلمون على إشراك الصبيان في القضايا العامَّة التي تلمَّ بالمجتمع، فيقول ابن سحنون[3]: «إذا أجدب الناس، واستسقى الإمام، فأُحِبَّ للمعلم أن يخرج بهم من يعرف الصلاة منهم، وليبتهلوا إلى الله بالدعاء ويرغبوا إليه، فإنه بلغني أن قوم يونس -صلى الله على نبينا وعليه السلام- لما عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم، فتضرعوا إلى الله بهم»[4].
على أنَّ هذه الكتاتيب لم تكن -على كثرتها- لتفي باستقبال الجموع الغفيرة من الصبيان المقبلين على العلم، لذا عمل بعض المؤدبين على اتخاذ دكاكين خاصَّة للتعليم، كما فعل إبراهيم بن مبشر البكري، الذي اتخذ من دكانٍ له على مقربةٍ من جامع قرطبة كتَّابًا يُقرئ فيه الصغار وينقط المصاحف.
وكانت لانتشار الكتاتيب في المدن والقرى أن أقبل الصغار عليها لتلقي العلم، وكان يتعذَّر أن يوجد فلاح أندلسي لا يعرف القراءة والكتابة في حين أن ملوك أوروبا لا يقدرون أن يكتبوا أسماءهم في توقيعاتهم[5].
المسجد المؤسسة التعليمية الأولى في الإسلام:
يمثل المسجد المرحلة التالية في النظام التعليمي الأندلسي؛ فقد كان الصبيان يمضون أعوامًا يتعلمون القراءة والكتابة ويستظهرون القرآن كتبًا ثم حفظًا ثم تجويدًا، حتى إذا حذقوا ذلك وأتقنوه أذن لهم مؤدِّبوهم في الانتقال إلى حلقات شيوخ العلم في المساجد والجوامع، وبذلك يطوون مرحلةً تعليميَّةً ويفتتحون أخرى.
والمسجد باعتباره المؤسسة التعليمية الأولى والأهم في الإسلام، فقد بادر الفاتحون والولاة إلى بناء المساجد ليس لتأدية الصلاة وحدها بل لعمرانها -أيضًا- بتلقى أصول العقيدة وأحكام الشريعة وقواعد العلم، فقد زاد عدد المساجد في الأندلس منذ أول مسجد بناه موسى بن نصير وهو مسجد الرايات بالجزيرة الخضراء بشكل مهول؛ فقرطبة وحدها وصلت مساجدها أيام عبد الرحمن الداخل إلى 490 مسجدًا، ثم زادت بعد ذلك إلى 3837 مسجدًا.
وعلى سبيل المثال ظهر مسجد قرطبة مثالًا حيًّا للجامعة العلميَّة المعاصرة في ذلك الوقت، بل يعد أكبر مركز علمي في أوروبا كلها، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية، وكان يُدرَّس فيه كل العلوم، وكان يُختار لها أعظم الأساتذة، ويَفِد إليه الطلاب من الشرق والغرب على السواء؛ مسلمين كانوا أم غير مسلمين. وقد احْتَلَّتْ حلقات الدرس والعلم أكثر من نصف المسجد، وكان للشيوخ راتبٌ جيِّد ليتفرَّغُوا للدرس والتأليف، وكذلك خُصِّصَتْ أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين.
ولم تكن جوامع بقية الحواضر من مثل إشبيلية وبلنسية ومرسية وغرناطة ومالقة وغيرها بأقل إسهامًا في الحركة التعليمية؛ فقد كانت جميعها تزدان بالشيوخ ذوي التفنن والاستبحار في العلوم والمعارف.
فقد اشتهرت حلق الإمام أبي الوليد الباجي[6] في كافة أنحاء الأندلس، بعد رحلته إلى المشرق؛ وحدَّث عن نفسه بذلك قائلًا: «وكان لي في ذلك الوقت مجلسٌ يجتمع إليَّ فيه للمذاكرة في الموطَّأ بمسجد الموضع الذي كنت أسكن فيه...»، وسمع منه الجمُّ الغفير صحيح البخاري بدانية، وفي رجب سنة (463هـ) بسرقسطة، وفي سنة (468هـ) بمسجد رحبة القاضي ببلنسية، وغيرها من المدن[7].
وكذلك عُرِفت حلقات أبي بكر بن العربي في الحديث والأصول والتفسير في جامع إشبيلية، وأبي بكر أحمد بن جزي في الحساب والفرائض في جامع بلنسية، وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي المعروف بابن برطلة كان يُقريء الحديث والفقه والعربية والأدب في جامع مرسية، وأبي الحسن علي بن عمر القيجاطي أَقْرَأ بمسجد غرناطة الأعظم العربية والأدب وغيرهما، وأبو إسحاق إبراهيم بن فتوح العقيلي كان يُحلِّق في الجامع نفسه يدرس فنونًا من العلم وبخاصَّة التفسير والحديث والمنطق والمعاني والبيان، ومحمد بن أحمد الغساني كان يدرس الفقه وعلوم اللغة والفرائض في جامع مالقة، وأبي عبد الله محمد بن أحمد الجعدالة كان يقريء الفقه والأصول بالمسجد الأعظم في مدينة المرية، وحسين بن محمد الأنصاري كانت له حلقةٌ عظيمةٌ يُعلِّم فيها القراءات[8].
على أنَّه إلى جانب المساجد والكتاتيب والدكاكين كانت ثَمَّة أمكنة أخرى للتعليم وخصوصًا بعد مرحلة التهجي والتكتيب والتحفيظ وهي المنازل؛ وأشهرها: قصور ولاة الأمر والأمراء وأهل الحل والعقد، وبيوتات العلماء والفقهاء.
المدارس في الأندلس
لم يشهد العالم الإسلامي انتشارًا واسعًا للمدارس مع تنوُّعها وتطوُّرها بمثل ما شهده في الأندلس؛ فقد كانت المدارس الابتدائيَّة كثيرة العدد، بَيْدَ أنها كانت تتقاضى أجورًا نظير التعليم، ولذلك أضاف الخليفة الأموي الحكم الثاني إليها سبعًا وعشرين مدرسة لتعليم أبناء الفقراء بالمجَّان، وكانت البنات يذهبن إلى المدارس كالأولاد سواء بسواء، وكان التعليم العالي يقوم به أساتذة مستقلون يُلقون محاضراتهم في هذه المدارس، وقد كوَّنت المناهج التي كانت تُدرَّس العمودَ الفقري لجامعة قرطبة في عهد الخلافة الأموية في الأندلس، كما أُنشئت الكليات في كلٍّ من غرناطة وطليطلة وإشبيلية ومرسية وألمرية وبلنسية وقادس[9].
وكانت هذه المدارس تأوي علم القيروان وثقافة الأندلس المشهورة، حيث نبغ فيها أعلام كبار، منهم القاضي عياض[10]، وأبو الوليد بن رشد[11] مؤلف كتاب المقدمات الأوائل للمدونة، والبيان والتحصيل، إلى آخر كتبه القيِّمة[12].
وقد وصلت مدارس الأندلس إلى قمَّة الرقيِّ والتخصُّص في النصف الأوَّل من القرن الثامن، فكان من أشهرها وأعظمها «المدرسة العجيبة بكر المدراس» الذي شيَّدها السلطان النصري أبي الحجاج يوسف بن الأحمر في غرناطة، وأخريان شهيرتان في مالقة إحداهما شُيِّدت بصحن البرتقال من مسجد مالقة الجامع، والأخرى في الجانب الغربي من الجامع نفسه.
وتعد أشهر ما عرفته الأندلس من مدارس فهي التي بناها السلطان أبو الحجاج التي جاءت «نسيجة وحدها، بهجة وصدرًا وظرفًا وفخامة»، وغدت إلى جانب المسجد الأعظم الجامع «أنوه مواضع التدريس بغرناطة»، أغنت طلاب العلم والهدى عن الارتحال والظعن في طلبهما، وقد تصدَّر للتدريس بها جهابذة الأساتيذ وفطاحلة العلماء أمثال: الفقيه أبي محمد بن جزي الذي كان في دروسه بها «يعرب فيغرب يباهى به على المشرق والمغرب»، والفقيه أبي القاسم فرج بن لب الذي كان بقيامه على علومٍ عديدةٍ ومشاركته في فنونٍ مختلفة «لتدريسها ملازمًا وعلى نهج تبيانها جاريًا»، ويحيى بن أحمد بن هذيل التجيبي أَقْرَأ بالمدرسة الأصول والفرائض والطب، ولعله أقرأ غير هذه ممَّا كان يُجيد من علومٍ مثل: الهندسة والهيئة (الفلك) والحساب، وأبي عبد الله محمد الجعدالة وكان إلى علمه الواسع بالفقه يقوم على علوم العربية خير قيام، وكان يتولَّى بالمدرسة إقراء كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي[13].
وقد كان الطلاب في هذه المدارس -في المشرق والمغرب- كانوا يُكفون المؤنة، من الطعام والشراب والأموال والسُّكنى، وكذلك عرفت الحضارة الإسلامية نظام المدن الجامعية قبل الغرب بمئات السنين[14].
المكتبات
امتلأت ربوع الأندلس عبر تاريخها العطر بأعدادٍ كبيرةٍ من المكتبات العامَّة منها والخاصَّة؛ فكانت المكتبات العامة بمثابة مؤسَّسة ثقافيَّة يُحْفَظُ فيها تراث الإنسانيَّة الثقافي وخبراتها؛ ليكون في متناول المواطنين كافَّة.
وكان أشهرها على الإطلاق مكتبة قرطبة التي أسَّسَهَا الخليفة الأموي الحكم المستنصر سنة (350هـ=961م)، وقد أقام لها موظَّفِين مخصَّصِين للعناية بشئونها، وجمع فيها النسَّاخ، وعيَّن لها عددًا كبيرًا من المجلِّدِين، وقد ظلَّتْ محطَّ أنظار العلماء وطلاب العلم في الأندلس، وقد وفد إليها الأوروبيون للنهل من مَعِينِهَا، والتزوُّد من علومها، وقد كانت عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعًا وأربعين فهرسة، في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط[15].
وقد انتشرت كذلك المكتبات الخاصة في الأندلس -وجميع أنحاء العالم الإسلامي- بشكلٍ واسعٍ وجيِّدٍ؛ ومن أمثلتها مكتبة الخليفة المستنصر[16]، ومكتبة الفتح بن خاقان، الذي «كان يمشي والكتاب في كُمِّه ينظر فيه»[17]. ومكتبة القاضي أبي المطرف، الذي «جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس»[18].
وقد تبارى الخلفاء والأمراء في إنشاء المكتبات وتزويدها بكلِّ جديدٍ من الكتب المشرقيَّة والمغربيَّة، حتى إنَّ الحكم بن عبد الرحمن الناصر خليفة الأندلس كان يبعث رجالًا إلى جميع بلاد المشرق ليشتروا له الكتب عند أوَّل ظهورها[19]. وأنه لما سمع بكتاب «الأغاني» -المشهور الآن- في الأدب، ما كان منه إلا أن أرسل إلى مؤلِّفه أبي الفرج الأصفهاني[20] ألف دينار من الذهب ثمن نسخةٍ منه ليُرسله إليه في بلده، وكان له ما أراد؛ حيث أرسل إليه أبو الفرج بنسخةٍ من كتابه المذكور، فكان أن قُرِئ الكتاب في الأندلس قبل أن يُقرَأ في العراق موطن المؤلف!!
تعليم الرقيق في الأندلس
لقد اشتهر في الأندلس وخاصَّةً بين مجتمع العلماء ورجالات السلطة المثقفين -وجلُّهم كذلك- سعيهم الدئوب في تعليم الرقيق والموالي، فنجد مثلًا أنَّ المنصور ابن أبي عامر دفع مجاهد العامري -وهو من أحد مواليه- إلى تعلُّم القراءات، حيث اجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمَّة القرَّاء بحضرته، فكان سهمه في ذلك وافرًا[21]، فقد أصبح مجاهد من النابغين في علوم القرآن والعربية، فضلًا عن أنه أصبح أميرًا لدانية وجزر البليار.
ونجد كذلك الفقيه والمحدث الأندلسي أحمد بن عبد الصمد الخزرجي القرطبي، أنه كان كفيفًا، وكان له مملوكٌ من أبناءِ الرُّوم كان قد علَّمه الكتابة، فكان يكتب عنه كلَّ ما يُؤلِّف أو يصدر من نظمٍ أو نثر[22].
المجالس العلمية:
بالإضافة إلى كلِّ مظاهر الرقيِّ الحضاري تلك التي ترسِّخ الأهميَّة القصوى بل والمنهجيَّة المحْكَمَة للتعليم في الأندلس، نجد أنَّهم أضافوا كذلك بصمةً حضاريَّةً فريدة وهي «المجالس العلميَّة»، وعلى الرغم من أنَّها بشكلٍ عامٍّ ظاهرةٌ قديمةٌ مشتهرة في المشرق الإسلامي، لكن ما يُميِّزها في الأندلس أنها لم تقتصر على قصور الخلفاء والأمراء؛ بل تجاوزتها إلى ما دونهم حتى وصلت إلى أن أصبحت من عادات بعض العوامِّ في الأندلس..
وأشهر هذه المجالس قاطبةً على مستوى الخلفاء والأمراء، هي مجالس الحكم ابن الناصر الذي أكثر من مجالسة العلماء وآثرهم على من سواهم في تقديرهم واحترامهم، وكذلك المنصور ابن أبي عامر؛ كان له مجلسٌ معروفٌ في الأسبوع، وكان يوم جمعة، يجتمع فيه أهل العلم الكبار بصورةٍ دوريَّةٍ مدَّة إقامته بقرطبة بقصره في الزاهرة، وكذلك من بعده لولده الحاجب المظفر[23].
بالإضافة إلى الكثير من مجالس الفقهاء والعلماء في منازلهم ودكاكينهم أو في المساجد دون حلقات العلم الرئيسة، ومن المجالس العلمية الفريدة من نوعها: مجلس الفقيه أحمد بن سعيد بن كوثر الأنصاري الذي كان يُعقد في داره في طليطلة، وكان في مجلسه هذا أكثر من أربعين تلميذًا، يدخلون في داره في مجلس قد فرش ببُسُط الصوف مبطَّنات، والحيطان باللبود من كلِّ حول، ووسائد الصوف، وفي وسطه كانون في طول قامة الإنسان مملوء فحمًا، يأخذ دفأه كلُّ من في المجلس، فإذا فرغ الحديث أمسكهم جميعًا وقُدِّمت الموائد. وكذلك إبراهيم بن محمد بن حسين بن شنظير الأموي لم يكن هناك أوقر مجلسًا منه، كان لا يذكر فيه شيءٌ من أمور الدنيا إلَّا العلم[24].
2- العلوم الحياتية والإنسانية
بعد الحديث عن المؤسَّسات التعليميَّة في الأندلس ومعرفة بعض الأطر التعليميَّة فيها، تأكدنا أنَّ الاهتمام بالعلم والتعليم لم يكن محض صدفةٍ أو مجرَّد تقليدٍ للمشرق الإسلامي، بل كان ذا منهجيَّةٍ وصبغةٍ فريدة استطاع علماء الأندلس ومفكروها بمساعدة حكامهم تطبيقها وترسيخها خاصَّةً في عهد الخلافة الأمويِّة، فكان لزامًا ونتاجًا طبيعيًّا أن ينمو الفكر الأندلسي وأن تحدث الطفرة العلميَّة في كلِّ المجالات خاصَّةً العلوم الحياتيَّة.
وبالطبع لا يُنكر عاقلٌ السبقَ المشرقي في هذا الجانب بل والتبعيَّة الواضحة للأندلس والمغرب عامَّةً له، وقد استمر بشكلٍ واضحٍ حتى عصر الخلافة الأموية؛ فمنذ عهد الخلافة -عبد الرحمن الناصر تحديدًا- بدأ الأندلسيُّون يتوجهون نحو الاعتماد على أنفسهم في بناء كيانهم العلمي، وبذلك أصبحوا في موقف العطاء والبذل العلمي، ولا يعني هذا أنهم قطعوا علاقتهم بالمشرق بل ظلوا على اتصالٍ به وبعلمائه ولكن في صورةٍ أقلَّ ممَّا حدث قبل هذا العصر[25].
ورسالة ابن حزم في فضل الأندلس تُعتبر ثبتًا تصنيفيًّا أحصى فيها ثمار الفكر الأندلسي؛ إذ أتى فيها على ذكر المؤلَّفات الرئيسة التي أسهم فيها الأندلسيُّون حتى عصره، سواءٌ في العلوم الدينيَّة أم غيرها. فإنَّ ما وصلنا من تآليفهم تؤكد حقيقة ما وصلت إليه الأوضاع العلميَّة والأدبيَّة في الأندلس من رقيٍّ وازدهارٍ وتألّق، فقد نَفَذ الأندلسيون في عصر الخلافة من دائرة التقليد إلى محيط الإبداع العلمي مع بروز الشخصيَّة العلميَّة في ميدان الفكر[26].
وسنكتفي في هذا المقال بعرض الإسهامات التي تفرَّد بها علماء الأندلس والمجالات التي أضافوا إليها أو سبقوا فيها في النقاط التالية:
العلوم التطبيقية:
الطب والصيدلة:
برع عددٌ كبيرٌ من علماء الأندلس في فنون الطب والصيدلة، ومنهم: أبو جعفر الغافقي صاحب كتاب «الأدوية المفردة» وكتاب «المرشد في الكحل» عن طب العيون، وأحمد بن يونس الحراني، والوزير أبو المطرف اللخمي صاحب كتاب «تدقيق النظر في علل حاسة البصر»، وعريب بن سعيد الكاتب، صاحب أول كتاب عربي في علمي طب الأطفال والولادة «كتاب خلق الجنين، وتدبير الحبالى والمولدين»، وسليمان بن جلجل، وعمرو بن عبد الرحمن الكرماني، والوزير ابن وافد الطليطلي.
وقد لمع اسمُ واحدٍ يُعَدُّ من أعظم الجرَّاحين الذين أنجبتهم البشرية عبر العصور والأزمان، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، وهو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي الأندلسي، المعروف في أوروبا باسم (Abulcasis)، الطبيب الجراح، الذي تمكَّن من اختراعِ أُولى أدوات الجراحة والتي ما تزال تستخدم إلى اليوم؛ كالمشرط والمقصِّ الجراحي، كما وضع الأسس والقوانين للجراحة، والتي من أهمِّها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة؛ فكان أَحَد العلماء الأعلام الذين سعدت بهم الإنسانية.
وقد حقَّق الزهراوي إنجازات لا تحصى في فن الجراحة وطب النساء والحمل والولادة، وإزالة الأورام، ووصف مرض الناعور، واستخراج الحصى، وخياطة الجروح بالخيوط الحريرية، بالإضافة إلى براعته في إجراء العمليَّات الجراحيَّة شديدة الصعوبة حينئذٍ؛ فكان أول من نجح في عمليَّة فتح الحنجرة (القصبة الهوائية)[27]، كما أن الزهراوي أوَّل من حضَّر الأقراص بالكبس في قوالب خاصَّة[28].
وكذلك برع بنو زهر وأشهرهم أبو مروان عبد الملك المعروف بابن زهر الأندلسي، الذي يُعتبر أعظم معلِّم في الطب الإكلينيكي بعد الرازي، وصاحب أول فكرة عن جراحة الجهاز التنفسي، كما أن له أبحاثًا كثيرة عن الأطعمة والأدوية والكسور، وله إسهامات في وصف التهاب التامور، والتهاب الأذن الوسطى، وشلل البلعوم، كما وصف عملية استخراج الحصى من الكلى، وفتح القصبة الهوائية[29].
وفي الصيدلة عكف العديد من العلماء على دراسة النباتات وتأثيرها الطبي وكيفية استخلاص العقارات منها، ومن أبرزهم: النباتي وابن صالح وابن الحجاج وابن الرومية، وجاء من بعدهم تلميذهم ابن البيطار، وهو العبقرية العلمية الأندلسية النادرة؛ فقد احتوى كتابه «الأدوية المفردة» على شروح مفصَّلة لعدد كبير من الأدوية؛ بلغ 1400 دواء بين نباتي وحيواني ومعدني، ومنها 300 دواء جديد من ابتكاره الخاصِّ، معتمِدًا على مؤلَّفاتٍ أكثر من مائة وخمسين كتابًا، وقد بيَّن الخواصَّ والفوائد الطبِّيَّة لجميع هذه العقاقير، وكيفية استعمالاتها كأدوية أو كأغذية. وهناك كتاب آخر من إبداعاته العلمية، وهو: (المغني في الأدوية المفردة)، الذي قسمه إلى عشرين فصلًا؛ يحتوي على بحث الأدوية التي لا يستطيع الطبيب الاستغناء عنها، ورتَّبت فيه الأدوية التي تُعَالِجُ كل عضو من أعضاء الجسد ترتيبًا مبسَّطًا، وبطريقة مختصرة ومفيدة للأطباء ولطلاب الطبِّ.
وللأسف الشديد لا يسمح لنا المقام بسرد سير هؤلاء النابغين وإسهاماتهم الفريدة بتفصيلاتها، ولكن قد يشفع لنا إغفالها أنها مذكورة في كتابي «قصة العلوم الطبِّيَّة»[30].
الرياضيات والفلك:
قد يعتبر علم الفلك -في الأندلس- صاحب المكانة الأولى قبل الرياضيَّات، خاصَّةً أنه في بداياته ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالتنجيم، وكان له أهمية كبيرة في العصور الوسطى خاصة في الغرب، ولعل عبد الواحد بن إسحاق الضبِّي الذي ذاع صيته في القرن الثاني الهجري، هو أول منجم أندلسي ترك لنا عملًا مكتوبًا، وهو يعطي فكرة عن وضع هذا الفرع في هذا التوقيت؛ وذلك في أرجوزته التنجيميَّة والتي لم يبقَ منها إلا 39 بيتًا.
وأكبر دليل على أنه لم تكن للرياضيَّات في الأندلس الأهمية نفسها التي كانت للفلك، نجد أن أقدم نص رياضياتي هو الرسالة غير المنشورة حول مسح الأراضي (التكسير)، التي كتبها الطيب محمد بن عبدون الجبالي، وهو من التجليَّات الأولى في الرياضيات الأندلسية[31].
وقد تأسَّست مدرسة مقصورة على تدريسهما فقط، وهي التي أسَّسها أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي، كانت بمنزلة (معهد علمي)، يضمُّ العلوم النظرية والتطبيقية على غرار الجامعات التكنولوجية الحديثة، تتلمذ فيها صفوة من علماء الرياضيات، والفلك، والطب، والفلسفة، والكيمياء، والحيوان، من أمثال أبو القاسم الغرناطي الذي اشتهر بكتاب العمل بالأسطرلاب، وأبو بكر الكرماني.. وهي تسبق مثيلاتها في عصرنا بقرون عديدة، فقد تأسَّست في القرن (الرابع الهجري= العاشر الميلادي)، وقد كتب ثلاثة من أعضائها أول رسائل في الحساب التجاري (المعاملات)، وهم: المجريطي (المؤسس)، وأبو القاسم أحمد بن محمد بن السَّمْح، وأبو الحسن علي بن سليمان الزهراوي.
وقد ظهر في الأندلس علماء ذاع صيتهم وتفرَّد علمهم عن من سبقوهم، منهم: عبد الله محمد الأوسي المشهور بابن الرقَّام، الذي أثبت كفائة بالغةً في علم المزاول الشمسية. وكذلك ابن الصفَّار وهو من أبرع علماء الرياضيات والفلك، وكذلك أبو إسحاق النقاش الزرقالي[32] وهو يُعتبر من أعظم أهل الفلك من العرب، وهو واضع ما سمِّي في الفلك باللوائح الطليطليَّة نسبة إلى مدينة طليطلة في الأندلس، وبنى هذه اللوائح على المعارف التي استقاها ممن سبقه من العلماء كبطليموس والخوارزمي وغيرهما، وقد سجَّل في هذه اللوائح نتائج إرصاداته الفلكيَّة، وله كتاب (الصحيفة الزيجيَّة) بيَّن فيه استعمال الأَسْطُرلاَب على نحو جديد، واخترع على منوال الأسطرلاب آلة سمِّيت بالصفيحة أو الزرقالة، وهو أول مَنْ جاء بدليل على أن حركة ميل أوج الشمس بالنسبة إلى النجوم الثوابت تبلغ 12.05دقيقة، بَيْدَ أن الرقم الحقيقي هو 8.12 دقيقة[33].
وابن السَّيِّد الذي كتب في المتواليات الحسابية، وتلميذه ابن باجة الذي درس القطوع المخروطية والمنحنيات المستوية التي هي أعلى في درجتها من الدرجة الثانية ولا تنتمي إلى القطوع المخروطية، ودرس تثليث الزاوية وتحديد المتناسبات المتوسطة. وابن مُعاذ في كتابيه «المقالة في شرح النسبة» وهو أوَّل مثالٍ معروف -على ما يبدو- على فهمٍ وافٍ بتعريف إقليدس للنسبة، وكتاب «مجهولات قسيِّ الكرة»، وهو أوَّل بحث في الهندسة الكرويَّة أُلِّف في الغرب الإسلامي، وأول مثالٍ معروف على هذا الفرع المعرفي الرياضي مستقلًّا عن علم الفلك[34].
وقد استعمل علماء الأندلس الرموز (+، -، ×، ÷) في الأعمال الرياضيَّة بعد الخوارزمي، ومن مؤلَّفات القلصادي الأندلسي[35] ما يثبت صحَّة ذلك، خاصَّةً في كتابه (كشف الأسرار عن علم حروف الغبار). ولا يخفى ما لاستعمال هذه الرموز من أثرٍ بالغٍ في تقدُّم الرياضيات على اختلاف فروعها، وإنه لمن المؤسف حقًّا أن يُنْسَب إلى العالم الفرنسي فرانسيس فيت الذي عاش فيما بين (1540-1603م) ابتكار تلك الرموز والإشارات الرياضيَّة[36].
وكان أعظم علماء الفلك والرياضيات في الأندلس بلا منازع «أبو القاسم المجريطي»، قد نال المجريطي ثناء كثير من علماء المسلمين وغير المسلمين؛ لما قَدَّمه من جهود عظيمة، فيقول عنه القفطي: «كان إمام الرياضيين بالأندلس، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وله كتاب حسن في ثمار العدد...»[37]. ويقول ابن خلدون: «مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيمياء في القرن الثالث»[38].
ويقول عنه سارتون: «إنَّ أبا القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي نال شهرةً عظيمةً بتحريره لزيج الخوارزمي، وإضافاته البنَّاءة له، وصرف تاريخه الفارسي إلى التاريخ الهجري، ووضع أوساط الكواكب لأول تاريخ الهجرة وزيادته فيه لجداول جديدة». أمَّا ديفيد يوجين سميث فيقول: «إن أبا القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي الذي توفي (عام 398هـ= 1007م) كان مغرمًا بالأعداد المتحابة، ومشهورًا في تفوقه على غيره من علماء العرب والمسلمين في الأندلس بعلمي الفلك والهندسة»[39].
النبات:
بدأ اهتمام الأندلسيِّين بعلم النبات في عام (337هـ=948م) عندما أهدى ملك القسطنطينية إلى الخليفة الناصر مؤلف «ديسقوريوس» باليونانيَّة، ولم يكن في الأندلس من يجيد هذه اللغة، فطلب الخليفة الناصر من الإمبراطور أن يرسل إليه مترجمًا ماهرًا في اللغتين اليونانية واللاتينية، فاستجاب لطلبه وأوفد الراهب «نيقولا» في أواخر القرن العاشر الميلادي، وبتعاون مع الأطباء المحليين الذين يعرفون اللاتينية والعربية ترجمت الهدية[40].
وفي مطلع القرن الخامس الهجري ظهر الطبيب الأندلسي الجليل ابن جِلْجِل، الذي أضاف عدَّة موضوعات على كتاب المادَّة الطبِّيَّة لديسقوريدس، كان قد أغفلها العالم اليوناني الكبير، وبذلك أصبح الكتاب الجديد موسوعةً علميَّةً قيِّمةً جدًّا. وقسَّم هذا المرجع الفريد إلى خمسة فصول، كلُّ فصلٍ منها يتحدَّث عن نوعٍ من أنواع النباتات، واستخدامات هذه الأنواع في الأدوية المختلفة[41].
وعرفت الأندلس مجموعةً من البارعين في علم النبات، في الصف الأوَّل منهم: ابن الرومية؛ وهو من ألمع علماء العرب والمسلمين في الشطر الغربي من الأمة الإسلامية، بل إنه يعتبر حجة في علم النبات في الأندلس، تتلمذ على يده ابن البيطار الذي ورث عبقرية أبي العباس ابن الرومية في طريقة البحث والصبر والمثابرة على الدراسة والتحصيل العلمي ومن أهم مؤلفاته: «تفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس أو شرح حشائش ديسقوريدس»، و«مقالة في تركيب الأدوية»، و«أدوية جالينوس والتنبيه على أوهام ترجمتها»، و«الرحلة النباتية».
وكذلك: أبو جعفر الغافقي، ونال شهرة عظيمة كعالم نبات بسبب كتابه المرموق «الأدوية المفردة»، سبق أن تحدثنا عنه في معرض حديثنا عن علم الصيدلة. وابن العوام وهو أبو زكريا يحيى بن محمد بن أحمد بن العوَّام الأشبيلي الأندلسي، ألف كتابًا قيِّمًا مشهورًا في الزراعة الأندلسية، سمَّاه (كتاب الفلاحة) وقد تُرجِم وطُبِع عدَّة مرات. وأبو الخير الأشبيلي الذي كان يقوم بتجارب زراعية عديدة في ضواحي أشبيلية، وبدراسات تناولت عددًا من النباتات كالأشجار المثمرة، والكرمة، ونبات الحدائق، والغابات، ووضع نتيجة ذلك في كتابه (كتاب الفلاحة) وقد درسه وحققه الفرنسي «هنري بيريس» ونشرت خلاصة تصميمه في «دائرة المعارف الإسلامية».
وتعد الطفرة العلمية الهكبيرة في علم النبات في الأندلس، مرتبطة بظهور العالِم الإسلامي العبقري، والحُجَّة العلميَّة الباهرة ابن البيطار، وهو أبو محمد ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي، وقد كانت نفس ابن البيطار توَّاقة للعلم دائمًا فارتحل إلى بلاد عدة طلبًا له، جاب بلاد اليونان والروم والمغرب، ومرَّاكش والجزائر وتونس، ثم تابع جولاته منتقِّلًا إلى آسيا الصغرى مارًّا بأنطاكية، ومنها إلى سوريا، ثم إلى الحجاز وغزَّة والقدس وبيروت ومصر، وقد اجتمع مع علماء تلك البلاد فتدارس معهم أنواع النبات، وخواصَّه وفوائده، ولم يكتفِ بقراءة الكتب والمصنَّفات، فكان يدرس النبات في منابته، بل ويدرس الأرض التي تُنْبِته، وعن ذلك يقول ابن أبي أصيبعة: «شاهدت معه في ظاهر دمشق كثيرًا من النبات في مواضعه»[42]. وهذا ما دعا (راملاندو) في كتابه: (إسهام علماء العرب في الحضارة الأوربية) إلى القول بأن: «إسهام ابن البيطار في مجال علم النبات يفوق إنتاج السابقين من ديسقوريدس إلى القرن العاشر الهجري». كما يذكر (ألدو ميلي) في كتابه: (العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي) أن ابن البيطار «كان مشهورًا بأنه أعظم النباتيين والصيدليين في الإسلام، مع العلم أن مؤلَّفاته تعتمد على كتب السابقين له، فقد سجَّلت في جملتها تقدُّمًا بعيد المدى».
وقد برع في تصنيف كتابه (الجامع في الأدوية المفردة) -كما أشرنا سابقًا- ورتب مفرداته أبجديًّا، مع ذكر أسمائها باللغات المتداوَلَة في موطنها، ويقول (جورج سارتون) عنه: «وقد رتَّب ابن البيطار مؤلَّفَه (الجامع في الأدوية المفردة) ترتيبًا يستند على الحروف الأبجديَّة؛ لِيَسْهُلَ تناوله، وقد سرد أسماء الأدوية لسائر اللغات المختلفة، واعتمد علماء أوروبا على هذا المؤلَّف حتى عصر النهضة الأوربية»[43]. كما دوَّن ابن البيطار -أيضًا- الأماكن التي يَنْبُتُ فيها الدواء، ومنافعه وتجاربه الشهيرة، وكان يُقَيِّد ما كان يجب تقييده منها بالضبط والشكل والنقط تقييدًا يضبط نُطْقَهَا؛ حتى لا يقع الخطأ أو التحريف عند الذين ينسخون أو يطَّلعون عليه؛ وذلك لأهمِّيَّة الدواء وتأثير الخطأ على حياة الناس. كما أنه دوَّن فيه كل الشروح والملاحظات المتعلِّقَة بتخزين النباتات وحفظها، وتأثير ذلك على الموادِّ الفعَّالة والمكوِّنات الغذائيَّة الموجودة فيها.
العلوم الإنسانية:
التاريخ
التاريخ من العلوم الإنسانية التي نالت اهتمامًا كبيرًا من الأندلسيين، وبدأت الكتابة التاريخية -كحال أغلب العلوم- على غرار طريقة المشرقين، مع أنها ومنذ الوهلة الأولى اكتسبت بعض الفروق التي أثرت على مدرسة التأريخ في الأندلس، وبعضها قد نعتبره إيجابي والآخر سلبي.
فمن هذه الاختلافات التي تعد سلبيَّةً نوعًا ما أن أغلب المصادر لم تعني كثيرًا بالإسناد في رواياتها التي اعتمدت عليها لمؤرخي الفترة الأولى خاصة، مما حرمنا من معرفة الكثيرين منهم، وأن الأندلسيين لم يهتموا بتأريخ الأحداث السنوية على غرار مؤلفات الطبري مثلًا، إن استثنينا مقتبس بن حيان (على الرغم من أنه لم يتوفر منه الكثير من أجزاءه)، ومن الاختلافات الجوهرية عن كتابات المشرق، أنَّ كتب التراجم اتَّخذت من أسلوب الصلات والتتمَّات منهجًا لها؛ فافتتح ابن بشكوال ذلك فوضع كتابه «الصلة» تكملة لكتاب «تاريخ العلماء» لابن الفرضي، ثم ابن الأبار وضع التكملة لكتاب الصلة، وأسماه «صلة الصلة»، ثم الأنصاري الذي وضع كتاب «الذيل والتكملة» لكتابي الموصول والصلة، وهكذا، ومع تطور هذا المنهج وتميزه لكنه قد حرم الباحثين من مادة جديدة للتراجم لندرة المصادر فيها.
ونجد أن مؤرخي الأندلس بجانب اهتمامهم بالتاريخ العام، قد عنوا بتاريخ مدن وكور[44] الأندلس، فقد ألَّفوا وبحثوا في تاريخها الثقافي والسياسي والعمراني وغيره وطوروا ما عرف باسم الجغرافيا التاريخيَّة[45]، ولكن أكثر ما تفردوا به من اتجاهات الكتابة التاريخية، هو التأريخ شعرًا لبلادهم، فقد أبدعوه وسبقوا فيه إخوانهم المشارقة.
وقد برز مؤرخون بارعون في كل فترات الأندلس: أولهم عبد الملك بن حبيب السلمي وهو أول من دون التاريخ الأندلسي، وابن القوطية صاحب كتاب «تاريخ افتتاح الأندلس» الذي أرَّخ فيه منذ فتح الأندلس إلى عصر الخليفة الناصر، وكانت أسرة الرازي أشهر من سلك مضمار التأريخ، فخرج منها العديد كأحمد بن محمد بن موسى الرازي الكتاني، وأهم مؤلفاته: «أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وركبانهم وغزواتهم»، و«صفة قرطبة وخططها ومنازل العظماء بها».
وكذلك الخشني الذي ألَّف كتاب «قضاة قرطبة» وهو كتاب يجعلنا نغوص في مجتمع قرطبة وحياة أهلها من خلال سير قضاتها ومواقفهم مع الناس، و-أيضًا- ابن عبد البر النمري صاحب كتاب «القصد والأمم في معرفة أخبار العرب والعجم»، ومحمد بن يوسف الوراق الذي صنَّف في أخبار ملوك إفريقيا وحروبهم والغالبين عليهم، واهتموا كثيرًا بالأنساب فكتب فيها الكثيرون كالمؤرخ الخطيب البغدادي، وهو من أشهر مؤرخي الأندلس عامة، والذي صنف كتاب «أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب»، وكذلك العلامة الإمام ابن حزم الذي ألَّف كتاب «جمهرة أنساب العرب».
وقد أضاف ابن حزم خاصَّةً إلى علم التاريخ الأندلسي؛ نظرًا إلى ثقافته الموسوعيَّة، ودراسته لتجديد الفقه الظاهري، فكوَّن مدرسة تاريخيَّة أندلسيَّة متميِّزة، من أعلامها ابن عامر وصاعد الأندلسي والحميدي، الذين أسهموا في تطوير الفكر التاريخي الأندلسي موضوعًا ومنهجًا، غايةً ومقصدًا. وتجلَّى التجديد بشكل كبير في مجال التفكير والتأويل بل التنظير أحيانًا، خصوصًا في الإلحاح على «الرؤية الدنيويَّة للتاريخ» التي تضع اعتبارًا للجغرافيا والطبوغرافيا والإثنولوجيا في صياغة وقائع التاريخ وتفيدها في روحٍ نقديَّة. كذا إبراز أثر البداوة والحضارة في تشكيل سيرورة التاريخ وصيرورته.
وممَّا أضافه مؤرِّخو الأندلس ظاهرةَ الكتابة التاريخية التي تدخل في باب «المذكرات الخاصَّة»، مثل كتاب طوق الحمامة لابن حزم، الذي حظي بشهرة عالمية، واهتم به المستشرقون شرقًا وغربًا واعتبروه «سيرة ذاتيَّة» جمع فيها بين الفكرة الفلسفية والواقع التاريخي، وهناك أيضًا كتاب «التبيان» لابن بلقين أمير غرناطة، وسرد فيه تاريخ آبائه وأحوال حكمه وحوادث الأندلس في عصره، ويعد وثيقة هامة كشهادة أحد أمراء ملوك الطوائف على عصره، وكذلك وصل التطوُّر إلى كتابة «التواريخ العالمية» وبدأها ابن حبيب السلمي في كتابه «التاريخ»، وأبو بكر بن سعيد بن أبي الفياض في كتابه «العبر»[46].
الجغرافيا
كان نتيجة فتح الأندلس والزيادة العظيمة في رقعة الدولة الإسلامية تباعًا، نجد أن الجغرافيون المسلمون أكثروا من الاهتمام بالطرق والاتجاهات ببلاد الأندلس، فتطورت الدراسة الجغرافية كثيرًا على يديهم، بالإضافة إلى رحلات العلماء الأندلسيِّين إلى المشرق إمَّا بهدف أداء فريضة الحج، أو طلب العلم، مما أتاح لهم فرصة وصف رحلاتهم وتدوين ما رأوه وسمعوه وصادفوه، بل ورسم الخرائط الموضحة لها.. مما أثرى المجال الجغرافي بمؤلفات جمَّة.
ومن هؤلاء الرحالة ابن رشيد السبتي، الذي التقى الوزير ابن الحكيم الرندي في ألمرية وطافا معًا إفريقيَّة ومصر والشام والحجاز، وفور عودته إلى غرناطة ألَّف كتابه: «ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهتين الكريمتين على مكة وطيبة». وكذلك من أشهر جغرافيي الأندلس ورحالتها أبو البقاء خالد بن عيسى البلوي، وقد ارتحل إلى بلاد المغرب وعبرها إلى بلاد المشرق، ودوَّن رحلته في كتابه: «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق»، و-أيضًا- الرحالة الغرناطي علي بن موسى بن سعيد المغربي، الذي رحل إلى مصر والشام وبلاد العراق والحجاز، ودوَّن مشاهداته في مؤلفات منها: «المغرب في حلى المغرب»[47]. ويعتبر أحمد بن محمد الرازي من أشهر جغرافيِّي الأندلس ومؤرخيها -كما ذكرنا سابقًا-، وقد جمع بين العلمين في مؤلفاته فكتب في أحدها عن مسالك الأندلس ومراسيها، وآخر في صفة قرطبة ويتعلق بجغرافيَّة المدينة. فقد تناول الرازي الجغرافيا على أنها علمٌ متمِّم للتاريخ. وأيضًا صنَّف محمد بن يوسف الوراق كتابًا هامًّا في الجغرافيا المسمى «مسالك إفريقيا وممالكها»، ومسلمة المجريطي صاحب كتاب «غاية الحكيم»، الذي اشتمل على عديد من المعارف والمصطلحات الجغرافية.
الفلسفة
بالطبع كان بداية ظهور الفلسفة في العالم الإسلامي عندما وجه العلماء المسلمين -سواء في المشرق العربي أم المغرب والأندلس- جانبًا من عنايتهم للفلسفة اليونانية، وعَبَّرُوا عن إعجابهم الشديد بها؛ ولكنَّهم مع ذلك لم يكونوا -كما حاول بعض المستشرقين تصويرهم- مجرَّد حفظة للتراث اليوناني، أو قنطرة عَبَرَ عليها هذا التراث من اليونانية القديمة إلى أوروبا في العصور الوسطى وما أعقبها من عصور. ومَنْ يَقِفُ على تراث الفلاسفة المسلمين فإنه سوف يكتشف أنهم -حتى في شروحهم وتلخيصاتهم للفلسفة اليونانية- كانت لهم ابتكاراتهم التي تكشف عن أصالتهم؛ وذلك أمرٌ لا يحتمل الإنكار، إلا أن يكون ممَّن تأصَّلت فيهم نزعة التعصب المقيت، والبُغض لكل ما هو شرقي أو إسلامي. ولعلَّ من أبرز مظاهر الأصالة في فلاسفة هذا الميدان ما يتجلَّى في نتاج محاولاتهم التوفيق بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والوحي، وهي المحاولات التي سبقتها جهود أخرى للتوفيق بين أفلاطون (427- 347 ق. م) ذي النزعة المثالية الصوفية -كما فهموه- وبين أرسطو (384 - 322 ق. م) صاحب الاتجاه العقلي[48].
ويُعَدُّ ابن رشد هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي، أحد أعظم فلاسفة المسلمين في الأندلس، ويُعْتَبَرُ من أعظم شُرَّاحِ فلسفة أرسطو، حتى إنَّه عُرِفَ باسم (الشارح)، فهو الذي مَيَّز بين تعاليم أرسطو وأفلاطون، كما تَمَيَّز بالتمحيص الكبير، حتى إنه لم يرتضِ كثيرًا من آراء أرسطو التي لا تَتَّفِقُ مع الدين. وقد اقتبس الغرب فلسفة ابن رشد بكاملها، ففتحت أمام الفكر الفلسفي الأوروبي الوسيط بابَ البحث والمناقشة، فنشأ بينهم مذهب (الرشدية) للأخذ بالعقل عند البحث. ومن تآليفه المهمَّة: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، و(مناهج الأدلة في عقائد الملة)[49].
وقد عُرِف العديد من الفلاسفة في الأندلس وكان لهم من الإسهامات الجليلة ما أثرى الفلسفة والفكر الإسلامي عامة، ومنهم: ابن طفيل أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي، الفيلسوف العالم والطبيب ورجل الدولة، وهو من أشهر المفكرين العرب الذين خلفوا آثارًا خالدة في عدَّة ميادين، وأشهر مؤلفاته الفلسفية والتي لم يبق لنا للأسف غيرها هو كتابه «حي بن يقظان» والذي عكف الفلاسفة والأدباء الأوروبيون على شروحه ودراسته، وما يزالون.. وهناك -أيضًا- ابن الكَتَّاني طبيب وشاعر وفيلسوف أندلسي من أهل قرطبة، وسليمان بن جبيرول الشاعر والفيلسوف اليهودي، ومالك بن وهيب الأندلسي، وهو من كبار فقهاء الأندلس في عصر المرابطين، وقد نبغ في الأدب والفلسفة، عيَّنه الأمير علي بن يوسف مستشارًا سياسيًّا وقضائيًّا في ديوانه، وكان أول من أشار عليه بقتل ابن تومرت أو سجنه قبل أن يستفحل خطره[50].
وإجمالًا فإن الفلسفة الإسلامية تعتبر اطِّرادًا واستمرارًا للفكر الإنساني، بل وتقدُّمًا له في بعض النواحي؛ حيث أخذت ما أخذت عن الفلسفات القديمة، ثم أسهمت في تنقيحها وإضافة الجديد إليها، ومهدت لما بعدها من فلسفات أخرى، فدفعت الفلسفة المسيحيَّة دفعةً قويَّة، وبعثت النهضة الأوروبية وغذَّت رجالها في العصر الحديث.
ويمكن تبيُّن أثر الفلسفة الإسلامية من الناحية الموضوعية في أنها أثارت في أوروبا موضوعات ومشكلات كثيرة نالت اهتمامًا في الجامعات والمعاهد، ودارت حولها بحوث ودراسات، وعالجتها كتب ومؤلفات، وشغلت البيئات الثقافية على اختلافها، من ذلك موضوع النفس وحقيقتها، ونظرية المعرفة، ومشكلة قِدم العالم، ونظرية الفيض أو الصدور، وصفات الباري، ومشكلة العناية الإلهية، والخير والشر، ومشكلة الوجود والماهية أو الممكن والواجب، إلى آخر هذه المسائل[51].
العلوم الشرعية والعربية.
العلوم الدينية في الأندلس:
الفقه:
من المعروف أن المذهب المالكي هو المذهب الفقهي الرسمي المتَّبع في الأندلس والمغرب الإسلامي عامَّة، وقد بدأ انتشاره منذ مطلع القرن (الثاني الهجري=الثامن الميلادي)، ومع محدودية انتشاره في البداية ولكنه ما لبث أن ترسخ في أعتاب مطلع القرن (الخامس الهجري= الحادي عشر الميلادي)؛ فقد بدأ الفقه في الأندلس على مذهب عبد الرحمن الأوزاعي، على يد معصمة بن سلام الدمشقي الشامي، ثم دخل المذهب المالكي على يد 18 طالبًا قابلوا الإمام في رحلة الحج، وقد ذكرهم لسان الدين وقال في ذلك: «فلمَّا رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس، فانتشر يومئذٍ رأيه وعلمه بالأندلس، وكان رائد الجماعة في ذلك شبطون». فكان شبطون هو أوَّل من أدخل مذهب مالك / في صورته المنقَّحة؛ حيث أدخله من قبله الغازي بن قيس الذي لقي مالكًا وأخذ عنه الموطَّأ في صورته الأولى وعاد به إلى الأندلس[52].
وقد تكوَّنت بذلك ما يُعرف بالمدرسة المالكيَّة الأندلسيَّة بجهود العديد من الفقهاء، منهم: محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة وقد ترك كتاب «المنتخب» في المذهب المالكي، وكذلك يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي الذي كان يعقد مجالسه العلمية في جامع قرطبة أيام الجمع، والفقيه عبد الله محمد بن القاسم الثغري الذي ارتحل إلى المشرق للتزوُّد بالعلم ثم عاد إلى الأندلس ليتولى القضاء.
وازدهرت الدراسة الفقهيَّة في الأندلس حيث اتَّجه الفقهاء نحو الاشتغال بدراسة مسائل الاختلاف ومحاولة حصر وجوهها المختلفة والخروج بما يكون أقرب للصواب؛ فقد صنَّف الفقيه الخشني كتابه «الاتفاق والاختلاف لمالك بن أنس وأصحابه»، كما صنَّف أبو محمد الأصيلي كتابًا فيما اختلف فيه الفقهاء وأسماه (الدلائل في اختلاف العلماء)، ووكذلك اعتنوا كثيرًا بشروح الموطأ، فكان عيسى بن دينار بن واقد الغافقى الطليطلي وله كتاب «شرح الموطأ»، وعبد الملك بن حبيب السلمي «تفسير الموطأ»، ويحيى بن زكريا بن إبراهيم بن مزين وأغلب مؤلفاته تدور حول تفسير الموطأ وبيان غريبه وعلله ومقاصده وقد تجاوزت السبعة مصنفات فيه فقط، وغيرهم الكثير..
وقد بدأ المذهب المالكي يأخذ طريقه إلى الحياة التشريعيَّة أيَّام هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام «الذي ألزم الناس جميعًا بمذهب مالك وصيَّر القضاء والفتيا عليه»[53].
ثم ظهر المذهب الظاهري عندما استطاع عبد الله بن قاسم أحد تلاميذ داود بن علي الأصبهاني الذي يُنسب إليه المذهب الظاهري في المشرق، أن يحمل عنه كتبه كلَّها وينشرها بالأندلس، وقد تمكَّن المذهب على يديه وعلى يد الإمام المبجَّل بقي بن مخلد أحد أكابر مذهب أهل الحديث، ثم جاء العَلَم المبجَّل المنذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة ولعب دورًا مهمًّا في التمكين للمذهب بحكم علمه وفهمه ومنصبه في الدولة في عهد عبد الرحمن الناصر، ثم من بعده كان أبو الخيار مسعود بن مفلت الظاهري شيخ ابن حزم والذي أخذ ابن حزم عنه المذهب، ثم جاء العلَّامة ابن حزم، الذي أحيى المذهب من رقدته وأعاد إليه حيويَّته ونشاطه بمجادلاته ومناظراته وحواراته ومؤلَّفاته؛ إذ عكف على كتب داود وكانت وقتها مشهورة بالأندلس وبسطها في كتبه، ونقل عنها، وأكثر من الاعتماد عليها فيما يُصنِّفه. ويعتبر الإمام ابن حزم أشهر فقهاء الأندلس؛ فقد صنَّف ما يُقارب من أربعمائة مجلَّد في شتَّى ضروب المعرفة[54].
وبالإضافة إلى ذلك فقد برزت في الأندلس نساءٌ فقيهات مثل: فاطمة بنت محمد بن يوسف المغامي وخديجة بنت جعفر التميمي.
الحديث:
اعتنى الأندلسيُّون عنايةً فائقةً بدراسة الحديث وجمعه وترتيبه منذ زمنٍ مبكِّر، وقد عرف الأندلس عددًا كبيرًا من العلماء المحدثين، ومنهم: يحيى بن مالك بن عائذ وهو يتقدَّم قائمة علماء الحديث في الأندلس، وقد رحل إلى المشرق وسمع من سبعمائة عالمٍ وأكثر لمدَّةٍ تزيد عن عشرين سنة، ثم عاد إلى الأندلس وقد وسع علمه وغزرت معرفته، فتسابق الطلاب إلى مجالسه بجامع قرطبة. ومنهم كذلك محمد بن عبد الملك بن أيمن وقد وُصِف بالبراعة التامَّة في علم الحديث وله كتابٌ في السنن على تراجم أبي داود[55].
ولم يقتصر الاهتمام بالحديث على أفرادٍ معيَّنةٍ فقط؛ بل برزت أسرٌ كاملةٌ برعت في علم الحديث، كأسرة الباجي ومنها ابن الباجي عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة اللخمي، وخلفه ابنه أحمد بن عبد الله الذي لم يكن أقلَّ قدرًا من أبيه، وكذلك أخته فاطمة بنت محمد بن علي من فقيهات ومحدثات عصرها. وآخرين كثر على مرِّ عصور الأندلس نذكرهم بإيجاز مثل: ابن وضَّاح، والبياني، وابن القوطية، وابن الحجَّام، وابن فطيس، وابن غلبون... والحصر يستحيل في هذا المقام، ولكن الأمثلة تكفي لبيان قدر اهتمام أهل الأندلس بالعلوم الشرعيَّة بل وتطويرها وعدم الاكتفاء بما يَقْدم عليهم من إخوانهم في المشرق الإسلامي.
علوم القرآن:
نشط الأندلسيُّون نشاطًا ملحوظًا في كلِّ ما يخصُّ القرآن الكريم، خاصَّةً في علم القراءات، وما يرتبط بطرقها من طرف قرَّائها السبعة المشهورين. وأوَّل ما دَخَلَت الأندلس من القراءات كانت قراءة نافع المدني على يد العلَّامة أبي محمد الغازي بن قيس الأموي.. ثم تطوَّر الاهتمام بها وتوسع علماء الأندلس في الاعتناء بعلم القراءات والتصنيف فيه، ومن أبرز علماء القراءات في الأندلس: أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي، وكان بارعًا في علم القرآن وقراءته وإعرابه وأحكامه وناسخه ومنسوخه ومعانيه، و-أيضًا- عثمان بن سعيد بن عثمان القرطبي الداني، الذي صنَّف كتاب «جامع البيان في القراءات السبع»، وكتاب «التيسير في القراءات» وقد ذاع صيته في العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه[56].
وقد برز من النساء المقرئة ريحانة الأندلسيَّة التي أخذت العلم عن أبي عمرو الداني بألمرية. وقد نقل أبو جعفر الضبِّي خبرًا عنها في بغيته، فيقول: «أخبرني أبو الحسن نجبة بن يحيى قال: أخبرني من أثقه، أنَّ أبا عمرو المقرئ أقرأ بألمرية مدَّة، وكانت ريحانة تقرأ عليه القرآن بها، كانت تقعد خلف سِترٍ فتقرأ ويُشير لها بقضيبٍ [قطعة من الخشب أو الحديد] بيده إلى المواقف، فأكملت السبع عليه وطالبته بالإجازة فامتنع، وقرأت عليه خارج السبع روايات»[57].
وكذلك نال علم التفسير عناية العلماء لما لكتاب الله من منزلةٍ عظمى، وأوَّل من صنَّف في التفسير العالم الكبير بقيُّ بن مخلد، ولم يكتفِ الأندلسيُّون في ذلك بتراث إخوانهم المشارقة؛ بل عمدوا إلى تنقيح وتصحيح الكثير منها، ممَّا يدل على النضج الفكري والمعرفي لديهم، وقد برز من علماء التفسير كثيرون، منهم: عبد الرحمن بن مروان الأنصاري المعروف بالقنازعي، وقد اختصر تفسير ابن سلام بطريقةٍ علميَّة تدلُّ على المهارة والحَذَق وسِعَة المعرفة في التفسير. وكذلك محمد بن عبد الله المري، والقاضي منذر بن سعيد البلوطي بالإضافة إلى كونه من أعلام المحدثين فقد صنَّف في علوم القرآن كتاب «الأحكام»، وكتاب «تفسير كتاب الله العزيز».
علوم اللغة والأدب:
كان للوافدين العرب بعد فتح الأندلس أثرٌ كبيرٌ في نشر اللغة العربية، ولا شَكَّ أنَّه ليس العامل الوحيد؛ فيُضاف إلى ذلك إقبال أهل شبه الجزيرة الأيبيريَّة (الأندلس) أنفسهم على اللغة العربيَّة، لا فرق في ذلك بين مسلمٍ وغير مسلم؛ نظرًا إلى كونها لغة الحضارة الغالبة والعِلْم المتفوِّق، ولسان الممتازين ذوي السلطان[58].
ولا أدلَّ على مدى انتشار اللغة العربيَّة في عصرٍ مبكِّرٍ بين المسيحيِّين أنفسهم، من تلك الصرخة التي أطلقها أحد القساوسة ويُسمَّى «ألفارو القرطبي» «Alvaro»، وقد نقلها إلينا المستشرق الشهير ليفي بروفنسال في كتابه «الحضارة العربية في إسبانيا»!
يقول القس ألفارو: «إن إخواني في الدين يجدون لذَّةً كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويُقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلسفة المسلمين، لا ليردُّوا عليها وينقضوها؛ وإنَّما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبًا عربيًّا جميلًا صحيحًا. وأين تجد الآن واحدًا من غير رجال الدين يقرأ الشروح اللاتينيَّة التي كُتِبَت على الأناجيل المقدَّسة؟! ومَنْ سوى رجال الدين يعكف على دراسة كتابات الحواريِّين، وآثار الأنبياء والرسل؟ يا للحسرة!! إنَّ الموهوبين من شبَّان النصارى لا يعرفون اليوم إلَّا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها ويُقبلون عليها في نهم، وهم يُنفقون أموالًا طائلةً في جمع كتبها، ويفخرون في كلِّ مكانٍ بأنَّ هذه الآداب حقيقيَّةٌ جديرةٌ بالإعجاب. فإذا حدَّثْتَهم عن الكتب النصرانيَّة أجابوك في ازدراءٍ بأنَّها غير جديرةٍ بأن يصرفوا إليها انتباههم. يا للألم!! لقد نسي النصارى حتى لغتهم فلا تكاد تجد في الأَلْفِ منهم واحدًا يستطيع أن يكتب إلى صاحبه كتابًا سليمًا من الخطأ. فأمَّا عن الكتابة في لغة العرب، فإنَّك واجدٌ منهم عددًا عظيمًا يُجيدونها في أسلوبٍ منمَّق، بل هم ينظمون من الشعر العربي ما يفوق شعر العرب أنفسهم فنًّا وجمالًا»[59].
بالإضافة إلى ذلك الأثر الكبير في نشر اللغة؛ فقد صرف الأندلسيُّون جهدًا كبيرًا في دراسة علوم اللغة العربيَّة وآدابها من مصادرها المشرقيَّة الأصيلة؛ إمَّا بالارتحال والتلقِّي المباشر عنهم، أو عن طريق دراسة مصنَّفاتهم، أو ممَّن هاجر إليهم من علماء المشارقة، إلى أن وصل الأندلسيُّون إلى قمَّة العطاء الأدبي واللغوي، بل ووصلت البراعة بهم أنَّهم أبدعوا صنوفًا جديدةً من الآداب كالموشَّحات والأزجال، وطوَّروا في بقيَّة فروعه..
النحو والصرف واللغة
سعى علماء الأندلس إلى دراسة النحو وحِفْظ قواعده، فظهر نحويُّون كُثُر منهم: مفرح بن مالك الذي عكف على دراسة كتاب الكسائي بشكلٍ دقيق، وأبو بكر بن خاطب النحوي، وقد شغل الكثيرون منهم بتأديب الناشئة وتعليمهم قواعد اللغة العربيَّة. وكذلك من اللغويِّين البارعين: القالي صاحب كتاب «المقصور والممدود» وكتاب «فعلت وأفعلت»، والزَّبِيدي أبو بكر محمد بن الحسن الإشبيلي صاحب التصانيف الشهيرة: منها «الواضح» في النحو ومختصر معجم «العين»، و«أخبار النحويين»، والإمام اللغوي ابن سيده المَرْسِي صاحب المعجم الشهير «المحكم والمحيط الأعظم».
الأدب:
بدأت الكتاب الأدبيَّة النثرية في الأندلس بالكتابات الرسميَّة التي عمدت إلى تسجيل الغزوات وأخبار الفتوحات، والتي كان أكثر اعتمادها على سمات الكتابات الديوانيَّة المشرقيَّة، وقد أسهم الأندلسيُّون في تطوُّر الكتابة الوصفيَّة، فظهرت المقارنات بين المدن، وأنواع الزهور.
وقد عرفوا كذلك الكتابات الذاتيَّة، مثل الإخوانيَّات والرسائل بين الأدباء والسلاطين والوزراء، وغلب على بعضهم الاعتناء بفنون البديع والتركيز على الصنعة اللفظيَّة، ومن أهم الأدباء الذين اشتهروا في فنون النثر من خطابة ومقامة ومناظرة وغيرها، ابن عبد ربه صاحب «العقد الفريد» والذي ذاع صيته في المشرق والمغرب، وابن الشهيد صاحب «رسالة التوابع والزوابع»، وابن سيده صاحب «شرح مشكل أبيات المتنبي» و«الأنيق» وهو في شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، وابن زيدون الذي تفوق في رسائل الغزل والرسائل الهزليَّة والاعتذاريَّات، بالإضافة إلى شاعريَّته الكبيرة.
وقد عرف الأندلسيون فن المقامات حيث ذاعت مقامات بديع الزمان الهمداني ورسائله خاصَّةً في عهد ملوك الطوائف بالأندلس، وقد عارض الأديب عبد الله محمد بن شرف القيرواني هذه المقامات والرسائل وسار في كتابته على نمطها، وكذلك فعل الشاعر أبي المغيرة عبد الوهاب بن حزم؛ فقد عارض -أيضًا- رسالة للهمداني في وصف غلام، وقد أورد ابن بسام في كتابه أجزاء من مقامتين لأديبين أندلسيَّين، إحداهما لأبي حفص عمر الشهيد، والأخرى لأبي محمد بن مالك القرطبي[60].
وكان الشعر من أبرز مظاهر الحضارة الإسلاميَّة في الأندلس، فأبدع الأندلسيُّون في مختلف أغراضه، وطوَّروا من الأغراض الملائمة لكلِّ عصرٍ تبعًا لأحداثه ومجريات أموره، فنظموا الأراجيز العلميَّة والمنظومات التي أرَّخت أحداث الفتوح والغزوات، والشعر الحماسي الذي يسرد أمجاد الحضارة الإسلاميَّة في بلادهم، وبرعوا في الشعر التعليمي، ووصف الطبيعة، ثم في مرحلة السقوط برعوا في رثاء المدن والممالك الزائلة.
وقد ابتكر الشعراء الأندلسيُّون الموشَّح، وطوَّرُوه، وتفَنَّنُوا في أساليبه، وكان الموشَّح خطوةً كبيرةً في تَطَوُّر شكل الشعر العربي؛ فقد أتاح للشاعر حرية التصرُّف في القوافي، وحرية التنوُّع في الوزن، وكان من نتائج انتشار الموشَّح انبعاث أدب الزجل الشعبي، يقول ابن خلدون: «وأمَّا أهل الأندلس فلمَّا كثر الشعر في قطرهم، وتهذَّبَتْ مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية؛ استحدث المتأخِّرُون منهم فنًّا منه سمَّوْه بالموشَّحِ»[61].
وقد برع عدد من أمراء الأندلس في نظم الشعر، مثل عبد الرحمن الداخل، ومن كلِّ طبقات المجتمع ظهر الشعراء النابغون، ومنهم: يحيى بن الحكم الغزَّال، وابن عبد ربه، وجعفر المصحفي، وابن هانئ الأندلسي، وابن زيدون، والأمير المعتمد بن عباد. وابن خفاجة والأعمى التطيلي الذي نبغ في الموشَّحات، والرصافي البلنسي، وابن مرج الكحل، واشتهر أبو البقاء الرندي في رثاء المدن ولمع في العصر الأخير اسم الوزير لسان الدين بن الخطيب الذي ترك أكثر من 60 مؤلَّفًا شعرًا ونثرًا[62]، بالإضافة إلى أنه قد نبغت بعض الشاعرات وأشهرهن ولادة بنت المستكفي.
[1] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، ص354.
[2] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة، 2000م، ص273.
[3] ابن سحنون: هو أبو عبد الله محمد بن عبد السلام (سحنون) بن سعيد بن حبيب التنوخي (202- 256هـ= 817- 870م)، فقيه مالكي مناظر، كثير التصانيف. انظر: الزركلي: موسوعة الأعلام، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الخامسة، 1980م.6/204.
[4] ابن سحنون: آداب المعلمين، ص111.
[5] عصمت عبد اللطيف دندش: الأندلس في نهاية المرابطين ومستهل الموحدين، دار الغرب الإسلامي، 1988، 371- 372.
[6] أبو الوليد الباجي: هو سليمان بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي (403- 474هـ= 1012- 1081م)، محدث وفقيه مالكي كبير، أصله من بطليوس، ومولده في باجة بالأندلس، وتولى القضاء. انظر: الزركلي: الأعلام 3/125.
[7] سليمان بن خلف الباجي: التعديل والتجريح 1/106.
[8] حسن الوراكلي: الخطاب التربوي عند الأندلسيين (الحلقة الثانية)، مجلة المعرفة، تونس، العدد 69، 1430هـ=2009م.
[9] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م. 13/306.
[10] القاضي عياض: هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي (476- 544هـ / 1083- 1149م)، كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. ولي قضاء سبتة، ومولده فيها، ثم قضاء غرناطة، وتوفي بمراكش. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/483، 485.
[11] ابن رشد: هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (520- 595هـ / 1126- 1198م) العلامة الفيلسوف، المعروف بابن رشد الحفيد. ولد بقرطبة، وتوفي بمراكش. انظر: الذهبي: سير الأعلام 21/307-309، وابن العماد: شذرات الذهب 4/367.
[12] الحسن السائح: الحضارة المغربية 2/64.
[13] حسن الوراكلي: الخطاب التربوي عند الأندلسيين (الحلقة الثانية)، مجلة المعرفة، تونس، العدد 69، 1430هـ=2009م.
[14] الناصري، أحمد بن خالد: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري، محمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، (دون سنة طبع). 3/111، 112.
[15] ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة، محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي: تحقيق: عبد السلام الهراس، دار الفكر للطباعة – لبنان، 1415هـ- 1995م. 1/190.
[16] ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر: البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1408هـ=1988م. 13/186.
[17] الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت. 18/375.
[18] الذهبي: تاريخ الإسلام 28/61.
[19] ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة 1/226.
[20] أبو الفرج الأصفهاني: هو علي بن الحسين بن محمد القرشي الأموي الأصبهاني الكاتب، مصنف كتاب «الأغاني»، يذكر أنه من ذرية الخليفة هشام بن عبد الملك، وهو أصبهاني الأصل، بغدادي المنشأ. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق حسين الأسد، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة التاسعة، 1413هـ=1993م. 16/201، وابن خلكان: وفيات الأعيان 3/307.
[21] ابن خلدون: ديوان المبتدأ والخبر، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط2، 1408هـ= 1988م، 1/552.
[22] ابن عبد الملك المراكشي: الذيل والتكملة، تحقيق: إحسان عباس، ومحمد بن شريفة، وبشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط1، 2012م، 1/420.
[23] انظر: صباح خابط: الأحوال الاجتماعية والاقتصادية لأعيان الأندلس في عهدي الإمارة والخلافة، دار ومكتبة عدنان، 2014م.
[24] شكيب أرسلان: الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية، دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، 2/ 3.
[25] سعد عبد الله البشري: الحياة العلمية في عصر الخلافة في الأندلس، (رسالة ماجستير)، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، السعودية، 1982م، ص 97.
[26] سعد عبد الله البشري: الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس، ص 181.
[27] انظرعلي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1998م. ، ص105.
[28] بركات محمد مراد: التراث العربي والصيدلة، ص106.
[29] انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين، ص201.
[30] راغب السرجاني: قصة العلوم الطبية، أقلام للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، 2013، ط1.
[31] خوليو سامسو: العلوم الدقيقة في الأندلس، مقال منشور ضمن كتاب: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الخضراء الجيوسي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1998، 2/1316.
[32] الزرقالي: أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى التجيبي النقاش (420هـ- 480هـ/1029م- 1087م)، فلكي ومخترع للعديد من الآلات، وممن أدخل تحسينات على الأسطرلاب، من كتبه (الصحيفة الزرقالية) عن الإسطرلاب.
[33] انظر: علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص209، وشوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية وموجز عن الحضارات السابقة، دار الفكر - دمشق، سوريا. ص544.
[34] المصدر السابق، 2/1318- 1321.
[35] القلصادي: هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي البسطي (815- 891هـ=1412- 1486م) عالم بالحساب، من أئمة المالكية، من كتبه (في الجبر والمقابلة). انظر: الضوء اللامع 6/5، وكشف الظنون 1/153.
[36] جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، مكتبة الخانجي - القاهرة، 1974م، ص358، وعلي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم، ص65.
[37] القفطي: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص214.
[38] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/513.
[39] د. علي عبد الله الدفاع: العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية، ص 389.
[40] زيجريد هونكه: شمس الله تشرق على الغرب = فضل العرب على أوروبا، ص239.
[41] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق: عامر النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م، ص453.
[42] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 556.
[43] سارتون: مدخل إلى تاريخ العلم نقلا عن علي عبد الله الدفاع: إسهام علماء العرب والمسلمين في علم الصيدلة ص1.
[44] الكور مفردها كورة وهي منطقة تضم عدة قرى.
[45] انظر: يوسف أحمد بني ياسين: علم التاريخ في الأندلس حتى نهاية القرن الرابع الهجري، مؤسسة حمادة للنشر والتوزيع، اربد – الأردن، ط2، 2002م، ص11- 14.
[46] محمود إسماعيل: سوسيولوجيا، مرجع سابق، ص297.
[47] انظر: أحمد ثاني الدوسري: الحياة الاجتماعية في غرناطة في عصر دولة بني الأحمر، المجمع الثقافي، أبوظبي - الإمارات، 2004.
[48] انظر: حامد طاهر: مدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية، ص21.
[49] المصدر السابق، ص227، ورحيم كاظم محمد الهاشمي، وعواطف محمد العربي: الحضارة العربية الإسلامية، ص188.
[50] داود عبيدات: الموحدون في الأندلس.. المغرب والأندلس ما بين سنتي (541- 667هـ=1146- 1268م)، دار الكتاب الثقافي، الأردن – إربد، 2006، ص35.
[51] انظر: عبد المقصود عبد الغني: في الفلسفة الإسلامية، ص88.
[52] عبد الكريم بناني: كتاب الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الأندلس: الأسس المنطلقات والأبعاد (منقح)، من مدونة الدكتور البناني على الشبكة العالمية، الرابط:
https://bennanikarim.wordpress.com/2014/05/28/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%87%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B5%D8%AF%D9%8A-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3/، اطُّلِع عليه بتاريخ: 20/ 10/ 2020م.
[53] المصدر السابق نفسه.
[54] انظر: عبد المجيد محمود عبد المجيد، االتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث هجري، دار العلوم، 1979م، ص335، 350.
[55] سعد عبد الله صالح البشري: الحياة العلمية في عصر الخلافة في الأندلس، رسالة ماجيستير، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى، 1982م، ص178 -180.
[56] المصدر السابق، ص193- 195.
[57] أبو جعفر الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، دار الكاتب العربي – القاهرة، 1967م، ص412.
[58] أحمد هيكل: الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، دار المعارف، مصر - القاهرة، 1985، ص40.
[59] ليفي بروفنسال: «الحضارة العربية في إسبانيا»، ص١٠١.
[60] لسان الدين بن الخطيب: معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق: محمد كمال شبانة، مكتبة الثقافة الدينية – القاهرة، طبعة 2002، ص54.
[61] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/583.
[62] لسان الدين بن الخطيب: معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق: محمد كمال شبانة، مكتبة الثقافة الدينية – القاهرة، طبعة 2002، ص1.
التعليقات
إرسال تعليقك