د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
يختلف الناس في تقدير حجم الكوارث، أو حتى في تعريف الكارثة، فبعض الأمور كبيرة في عيون فريق من الناس، وهي هينة عند آخرين، والعكس صحيح.
يختلف الناس في تقدير حجم الكوارث، أو حتى في تعريف الكارثة، فبعض الأمور كبيرة في عيون فريق من الناس، وهي هينة عند آخرين، والعكس صحيح.
الفقر مثلًا كارثة كبيرة، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم خطرها بالكفر؛ ففي النسائي عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ». ومع ذلك روى البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
ما هي أخطر 3 كوارث في تاريخ البشرية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم؟
روى أحمد، والحاكم، والطبراني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ، أَنَّ الرَسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ نَجَا مِنْ ثَلَاثٍ، فَقَدْ نَجَا -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-: مَوْتِي، وَالدَّجَّالُ، وَقَتْلُ خَلِيفَةٍ مُصْطَبِرٍ بِالْحَقِّ مُعْطِيهِ". الذي ينجو من هذه الثلاث فقد نجا حقًّا، بمعنى أن عامة الكوارث دونها.
التعليق الأول: قد لا يقدِّر البعض حجم الكارثة الثالثة:
الكارثة الأولى: موت النبي صلى الله عليه وسلم:
· ذات أبعاد مركَّبة، لكن أخطر ما فيها أن المسلمين، والبشر بشكل عام، سيُتْرَكون لأنفسهم يديرون شئونهم دون دعم مباشر من الوحي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الخاتم، ففي البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي».
· انتبهت إلى ذلك أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي مسلم عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: "انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ. فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا".
· وعلى أرض الواقع كانت هذه كارثة وقع فيها الأغلب، ونجت القلة؛ فبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت الجزيرة العربيَّة كلِّها تقريبًا، ولم تبقَ على الإسلام إلَّا ثلاثُ مدن؛ هي: المدينة، ومكَّة، والطائف، وقرية جُوَاثَى شرق الجزيرة العربيَّة، وقد ارتدَّ بعضهم باتَّباع مدَّعي النُّبوَّة، وكانوا أربعة؛ الأَسْوَدُ العَنْسِيُّ في اليمن، ومُسَيْلِمَةُ الكذَّاب في اليمامة، وطُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ في بني أسد، وسَجَاحُ -وهي امرأة- في بني تميم، بينما ارتدَّ آخرون بمنع الزكاة، واعتبروا أنَّها كانت تؤدَّى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه، فلمَّا مات لم يعد للدولة حقٌّ فيها، وهذا في الواقع هدمٌ للدين والدولة معًا.
الكارثة الثانية: هي كارثة الدجال، وهناك تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أنها أكبر فتنة في تاريخ الإنسانية؛ ففي مسلم عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ»، وفي رواية: أمر. وخطورة فتنة الدجال أنه يفتن الناس عن دينهم، فيعبدونه من دون الله تعالى.
أما الكارثة الثالثة: وهي قتل الخليفة المصطبر على الحق عثمان بن عفان، وخطورة الكارثة أنها ستفتح باب الفرقة على المسلمين، ومن ثم التصارع، الذي قد يصل بالبعض إلى الكفر المباشر الصريح، ويمكن بمراجعة الأحاديث والواقع رؤية هذه المخاطر:
· روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الرَسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
· والمسلم عند خلافه مع أخيه المسلم قد يصفه بالكفر؛ وفي البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ".
· وافتراق الأمة إلى فرق صار بعد أزمة قتل عثمان؛ وقد روى أبو داود، وابن حبان، والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً». هذه الفرق كلها في النار إلا واحدة كما ورد في روايات أخرى.
· وظهور الخوارج كان بعد قتل هذا الخليفة المصطبر؛ والخوارج من شر خلق الله، وأمرقهم من الدين؛ ففي مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ».
التعليق الثاني: أن الذي يجمع هذه الكوارث الثلاث بعد هذا الشرح أنها كلها خطرة على الدين، وهذا ما كان يخيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بذلك أخطر من كوارث الحرِّ، والحرب، والفقر، والقتل، وغير ذلك من أمور على أهميتها، ولذلك جعل علماء الإسلام مقاصد الشريعة خمسة؛ أولها حفظ الدين، ويأتي بعده النفس، والمال، والعرض، والعقل.
التعليق الثالث: أن المسلمين في كل الأزمان معرَّضون لهذه الكوارث:
· فموت الرسول صلى الله عليه وسلم ليس أمرًا تاريخيًّا حدث من قرون، ولكن يُفْتَن الناس بظنهم أن شريعته كانت خاصة بزمانه، فيفعلون بسُنَّته ما فعله المرتدون بعد وفاته بترك الزكاة، فيتركون الدين ويقولون إنه لا يناسب زماننا.
· وكارثة موت عثمان ما زالت تفتن الناس، فيقعون في أعراض الصحابة الذين نقلوا إلينا الدين، ولو رغبنا عن طريقهم تركنا الإسلام، وقد يصل الخلاف بين المسلمين إلى الصراع، ويقود الصراع إلى التكفير، ويخرج المسلمون بذلك من دينهم.
خلاصة القول: إن أخطر الكوارث هي ما يتعلق بالدين لا بأمور الدنيا، ونسأل الله أن يحفظ علينا ديننا، وأن يقينا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك