ملخص المقال
يقرر ربنا تبارك اسمه في سياق قوله عن بدء الخلق كيف أن الوجود كان ملتئما منضم الأجزاء وقد قدر سبحانه وتعالى أن يفتق ويفصل بعضه عن بعض
يقرر ربُّنا -تبارك اسمه- في سياق قوله عن بدء الخلق كيف أن الوجود كان ملتئمًا منضم الأجزاء وقد قدّر -سبحانه- أن يفتق ويفصل بعضه عن بعض، ليتكون الكون ويصل إلى صورته العالية الرفعة والاكتمال {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]. وهذه الإشارة من الله قال بها علماء فلك معاصرون: إن الكون كان كتلة غازية بالغة الكثافة متماسكة، ثم حدث الانفجار الكوني العظيم قبل حوالي 13٫7 مليار سنة، ليبرز الكون إلى الوجود بصورته الحالية. وكل هذا من الآلاء التي رآها الكثير من العلماء الغربيين، وللأسف أرجعوها إلى الصدفة! ومنهم من أرجعها للفكرة الفلسفية القديمة غير الواضحة المعالم والصفات في ظل إنكار فكرة الرب الذي خلق وأوجد في نظام باهر! بل يقدرون الفكرة الهلامية المائعة ولا ينظرون في حكمة الخلق، ومنطقيات الوجود التي أوضحها القرآن[1].
ونتج عن هذا الفتق بعد الرتق توسُّع الكون {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]. "لقد شكلت الأدلة على صحة نظرية (الانفتاق الكوني) قاصمة للإلحاد الذي يزعم أزلية مادة الكون،
يقول (ستيفن هوكنج) العالم الفيزيائي المرموق (يُدعى: نيوتن العصر الحديث): "لم تكن المادة هي وحدها التي خُلقت أثناء الانفجار العظيم، بل إن الزمان والمكان أيضًا خُلقا.. إن للمكان بداية، إذن: للزمان بداية". ولا بد لهذا الانفجار من إلهٍ حكيم خبير كان قبل الكون، يقول هوكنج: "لو أن معدّل التمدد بعد ثانية واحدة من الانفجار العظيم كان أقل ولو بجزء واحد من مائة ألف مليون مليون جزء، لعاد الكون فتقوَّض قبل أن يصل إلى حجمه الحالي"[2].
الكثيرون حين واجهوا حقائق الكون وحكمتها لم يكن لهم إلا التسليم المطلق لله والإيمان به، وننقل ما ذكره الدكتور زغلول النجار عن مقاييس الخلق في الأرض، وإن كانت آلاؤه جميعًا معجزات كلما تعمقنا في فهمنا لوجدناها أكبر من أختها، وأثرًا من آثار رحمته I، والأشياء كلها قليلها وكثيرها بيده التحكم فيها، وفي وقت نزولها وكيفية النزول كلها بيد الله I.
فهو الذي قدّر متى تأتي، وخزائن القدرة لا يحدّها حدٌّ، وهذه الخزائن ملأى عامرة بما يصلح حال العباد إنْ كانوا على عهد الله من الإيمان والعمل الصالح، ويصرّف الله ذلك كيف يشاء حتى الأسباب التي تؤثر في نمو النبتة؛ من سقيا ودرجة حرارة صالحة للنمو، والحيوان من تأمين رزق ملائم لمقتضيات حياته ليعيش ويستمر، وحتى الهوامّ التي تؤذي، والحشرات التي تفيد في تلقيح الزرع، وقد تفيد في القضاء على آفات أخرى قد تضر، وبعضها يتعاطى مع الزرع بمبدأ "الإفادة والاستفادة"، فيستفيد بعض الرحيق في زهر النبات، ومع ذلك ينقل حبوب اللقاح من زهرة ذكر إلى أخرى أنثى.
ومسببات الحصاد كلها آلاء لمن يتدبر، وكلها آلاء مسخّرات بأمره، لا تتواجد هكذا بعشوائية أو بلا تدبير سابق أو بلا نظام كلِّي حكم مسيرة الوجود، بخلاف من يتحدثون عن عشوائية نشأة الكون، وأنه وُجِد صدفة لتواجههم المقولة الحكيمة (الصدفة لا تصنع نظامًا).
وقد يمنع الله الأشياء التي في خزائنه، أو يجعلها تشحُّ بما كسبت أيدي الناس، بل قد يحدث بوار وخراب في الأرض، أو يجعل محتويات هذه الخزائن لا تصل إلى الأرض بإذنه لأسباب قد يكتسبها الإنسان من ظلمٍ، أو كفر، أو ابتعاد عن منهج الله في كونه، أو غلّب المصلحة الخاصة على العامة بأثرة أو شح أو انعدام للتراحم بين الخلائق بتغييب المنهج الذي ارتضاه الله لعِباده؛ ونبههم إلى أن في السير عليه صلاحًا للدنيا كما هو صلاح للدين، وأن في النأي عن منهجٍ لا تجد تناغمًا بين الإنسان والكون الذي خلقه الله، فيحدث الفساد ويبدو للخلائق.
والظاهر من القول الحكيم أن في الناس طائعين لكنها طاعة منقوصة، فقد سكتوا عن الباطل فعذبهم الله بالفساد الذي ظهر وعمَّ في الوجود الظاهر، ولننظر إلى قول الحق متدبرين: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
فالناس الذين أفسدوا أو ظلموا معروفون بوجاهتهم وبطبائعهم، فهم الملأ من كل أمة؛ لذا جاءت (أيدي الناس) معرَّفة بـ (ال)، فهم صنف مقصودون معروفون امتلكوا زمام الناس وغلبوا على أمرهم، يسمعهم العامة ويطيعون، وإن كان الكثيرون من العامة يطيعون الملأ، فإنهم علا بعضهم على بعضٍ سلطةً أو قوة بمقدار القرب من الملأ، فإن كانوا مملوكين لفئة أعلى فإنهم مالكون للأدنى، فيسود الظلم فيهم، ويتبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعُوا حين يرون عذاب الله ماثلاً.
[1]وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، المختار الإسلامي.
[2] موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، الرابط: http://55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=717
التعليقات
إرسال تعليقك