ملخص المقال
حدثنا فهيم بن اليقظان قال جمعتني بأبي المهارج رفقة طريق، فأين كان سيذهب أبو المهارج؟ وبماذا انتقد العرب؟
حدثنا فهيمُ بن اليقظان قال: جمعتني بأبي المهارج رفقةُ طريق، كنت قاصدًا معهد المدينة العتيق، وكان يروم سفارة بلد شقيق. سألته عما جاء به إلى السفارة، فقال: مزمار وقيثارة، وعدوٌّ لدود أرجو اندحاره. قلت: ومن عدوك يا أبا الشطارة؟ قال: إنه الفقر قبح الله نهارَه، وقطع رَحِمَه وأصهاره، وأشياعه وجاره. قلت: أمَّا عدوُّك فعرفناه، فما بال القيثارة والمزمار، أأصابك ما أصاب الصَّرَّار؟ لا ريب أنه فساد الرأي والقرار، ومن سلك الجَدَد أَمِنَ العِثار.
قال أبو المهارج: لقد أيقنتُ منذ زمن ليس باليسير، أننا معشر العرب، قومُ لهوٍ وطرب، نمقت الغمَّ والكرب، ونعشق الغواني ونستمرئ الرُّطَب، ولا نهوى الشقاء والنَّصَب؛ ولذلكم اهتديتُ إلى سبيل السعادة، فارتأيت أن أجعل أيام الناس طيِّبة الوِفادَة، نغمٌ ورقص سائرَ العام، حتى صار لهم عبادة. وإني كلما استشعرتُ سأم الناس، ولمست منهم شدة البأس، وحَدَسْتُ مَلَلهُم وشاع اليأس، وكَثُرت شكاواهُم وفاض الكأس، هَرعْتُ إلى ما يجعل الأبدان تهتزُّ والرأس.
قال فهيم بن اليقظان: وما شأن السفارة بالطرب، ولهو الناس والعَتَب؟ قال: أهَلَّ قومُ فنٍّ وظرافة، ونحن أهْلُ لباقة وضيافة، وعادة السفراء الكرم، وإكرام الضيف من الشيم، فإن بخلوا ذَلُّوا بين الأمم، أو جادوا فمِن مروءتهم وعلُوِّ الهِمَم. فإنَّا نستعين على قضاء الوَطَر، بنقرٍ على الدَّف وعزف على الوتر، فمنهمُ الكرَم والجود، ومنا الرباب والعود. فوقع الحافر على الحافر، فذاك البادي والظاهر، وربُّك يتولى السرائر.
قال فهيم: فقلت لأبي المهارج: فإني مُذْ عرفتك والمال لك مِلَّة، ولا يَترُكُ الظبي ظِلَّه، فأنت قائمٌ على المحافل، تدعو أرباب الصنعة والفطاحل، وأغمارًا مُدَّعِي فَنٍّ وشِلال، لهم في ذلك مذاهب ونِحل، وأنت على سيرتك وذات الحال، تشكو الفاقة وقلة ذات اليد، كُسُوب يومِك تبذيرُ الغد. فإذا أنت كالرَّاقِم على الماء، والنافخ في الهواء.
قال: أوَّلُ الغزو أخرق، والناس بين طامع وحسود، فكيف أرقى أو أَسود؟ ثم إنَّ مالاً بين أيدي السفهاء، لا زكاءَ فيه ولا نماء، ولا انتفع به النبهاء.
قال فهيم: فقلت لأبي المهارج: لكن قُلْ لي بربك يا راعيَ المِهرجان، ويا صاحب الصَّولجان، لقد اغتنى صاحبُك وأثرى، ولأولي الأمر مآربُ أخرى، فقلْ لي ما ترى، فليس الأمر سرًّا يُذاع في الورى.
قال: ألم تسمع قول القائل: اليوم خمر وغدًا أمر، أم يُترَكُ الناس على الجمر، قد أطالوا السَّهَر، واستلذوا السَّمَر، يرْوُونَ قَصَصًا عن ظلم وجَوْر، وسنين عجافٍ وقهر؟ إن الفراغ يا فهيم أُسُّ البلاء، والبطالة يا ابن يقظان رأسُ الشقاء.
قال فهيم: فهَلاَّ شغلتم الناس بعلم نافع، أو عمل صالح شافع، أو فن ناظِرٍ رائق ماتِع؟ لا مُهَلْهَل ولا مائع، ولا مُنحط ولا ناقع، وكلامٍ نابٍ ثقيل على المسامع، ورقص فاضح موجع فاجع. وأعظمُ البهتان يا أبا المهارج، وقد قلَّبْتَ المواجع، قولُ القائلين مِمَّن انتكست فطرتُهم والطبائع، وأشباه نُقَّادٍ لهم في النقد منافع: حلَّ بين ظَهْرانَيْكُم فنَّانٌ من جيل الطلائع، ذو مقام عَلِيٍّ وصيت ذائع، أتى بالعجب وأبدَعِ البدائع! وتحت الرغوة الصريح، فَمَن لك بالكلام المليح؟
وفي اليوم الموالي، حضر أصحاب المعالي، وانطلق المهرجانُ وقت الهاجرة، وإذا بأصوات كأصوات طيور كاسرة، تُدَوي ووجوه حائرة، وشخوص وموسيقى نافرة. وكلام مسترسل مُبهَم غير موزون، لا هو بالأندلسي ولا الملحون، وليس غير نطٍّ وحركات وجنون. ثم علا صخب الناس وماج الجميع، فكأنهم في سكرة أو رقاد، واختلط الخاثِرُ بالزُّباد. وهيهات هيهات أن تسمع مقامات، فأوان ذلك قد فات، وحلَّ الخراب والموات.
قال فهيم: فرأيت صاحبَنا يعتلي المِنصَّة، وكان لرؤيته في الحلق غُصَّة، مُعْلِنًا ختم مهرجان ما بعد الغذاء، داعيًا الناس لمهرجان المساء. فقلتُ: بشرى لكم أهل البطالة، صيفُكم سُقْيا حتى الثمالة. ولك الله يا غزة الإباء، حياكم الله أيها الشرفاء!
التعليقات
إرسال تعليقك