التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كانت المرونة الفقهية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه تهدف إلى التيسير على الناس، وليس هدفها التفريط في الدين.
كانت المرونة الفقهية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه تهدف إلى التيسير على الناس، وليس هدفها التفريط في الدين، روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا»[1]. وهذا يعني أنه يختار الأيسر من أمرين كليهما حلال.
المرونة في تحديد الميقات للإحرام:
روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا»، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا، قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ[2].[3].
المرونة في تحديد الدية:
قال الإمام مالك في الموطأ: أَنَّهُ بَلَغَهُ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ. وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، قَالَ مَالِكٌ: فَأَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّأْمِ وَأَهْلُ مِصْرَ. وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ.
وبذلك تكون الدِّيَةَ في مصر فضة، وهي تساوي 35.7 كيلو جرام، والألف دينار تساوي 4250 جرام ذهب، والأصل في السُّنَّة أن الدية بالإبل: روى البخاري عن سهل بن أبي حَثْمَة رضي الله عنه: "...فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ"[4].
المرونة في فهم الفرق بين الفريضة والنافلة، وعدم إلزام الناس بالنافلة مع عظمها:
روى البخاري عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ رَبِيعَةُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الجُمُعَةُ القَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ، فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ، فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» وَزَادَ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ»[5].
روى مسلم عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا، عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: لَا تَطْعَمُوهُ وَقَذِرَهُ، وَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْهُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ، فَإِنَّمَا طَعَامُ عَامَّةِ الرِّعَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي طَعِمْتُهُ»[6].
الصحابي جابر بن عبد الله هنا يحاول أن يُقَلِّد الرسول صلى الله عليه وسلم في كلِّ شيء، وإن شقَّ ذلك عليه. ومثال ذلك في صحيح مسلم عن طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ فِلَقًا مِنْ خُبْزٍ، فَقَالَ: «مَا مِنْ أُدُمٍ؟» فَقَالُوا: لَا، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَالَ: «فَإِنَّ الْخَلَّ نِعْمَ الْأُدُمُ»، قَالَ جَابِرٌ: «فَمَا زِلْتُ أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وقَالَ طَلْحَةُ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ جَابِرٍ[7]، لكن عمر هنا كان أمير لكل المؤمنين؛ في المدينة وفي البادية، والأغنياء والفقراء، ولذا ارتضى المرونة الفقهية، وأبدى استعداده للأكل من الضبِّ تيسيرًا على الناس.
مثال أخر في مصنف عبد الرزاق الصنعاني عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَصَلَّى بِنَا الْفَجْرَ، فَقَرَأَ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ، وَلِئِيلَافِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَأَى أَقْوَامًا يَنْزِلُونَ فِيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقَالُوا: مَسْجِدٌ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ بِيَعًا، مَنْ مَرَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وِإِلَّا فَلْيَمْضِ»[8].
ومذهب عمر هذا مخالف تمامًا لمذهب ابنه عبد الله بن عمر، فكان عبد الله بن عمر يتحرَّى الأماكن التي صلَّى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم فيصلي فيها، وهو قادر على ذلك، وعقيدته سليمة، ولا يُخْشَى عليه من اعتقاد النفع والضُّرِّ للمكان، فيفعل ذلك، وجاء في البخاري " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْعِرْقِ[9] الَّذِي عِنْدَ مُنْصَرَفِ الرَّوْحَاءِ، وَذَلِكَ العِرْقُ انْتِهَاءُ طَرَفِهِ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ دُونَ المَسْجِدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُنْصَرَفِ، وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ وَقَدِ ابْتُنِيَ ثَمَّ مَسْجِدٌ، فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ المَسْجِدِ، كَانَ يَتْرُكُهُ عَنْ يَسَارِهِ وَوَرَاءَهُ، وَيُصَلِّي أَمَامَهُ إِلَى العِرْقِ نَفْسِهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرُوحُ مِنَ الرَّوْحَاءِ فَلاَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ المَكَانَ، فَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ، وَإِذَا أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ مَرَّ بِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ بِسَاعَةٍ أَوْ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبْحَ[10]!
بينما كان عمر يخشى المشقَّة على الناس، كما يخشى عليهم المبالغة في التبرُّك بالأماكن ففعل ما فعل[11].
[1] البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، (3367).
[2] البخاري: كتاب الحج: باب ذات عرق لأهل العراق (1458).
[3] ذات عرق: 110 كيلو متر شمال شرق مكة على طريق العراق، أما قرن، فهي قرن المنازل، وهي ميقات أهل نجد، على بعد 75 كم شرق مكة، وهي على بعد 55 كم شمال الطائف.
[4] البخاري: كتاب الديات، باب القسامة (6502).
[5] البخاري: أبواب سجود القرآن، باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود (1027).
[6] روى مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الضب، (1950).
[7] مسلم: كتاب الأشربة، باب فضيلة الخل والتأدم به (2052).
[8] عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي، الهند، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ، 2/ 118.
[9] وهو جبل صغير يُعرف بعرق الظبية، (آخر الروحاء، وهي وادٍ على بعد 80 كم من المدينة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل بها للاستراحة وهو في طريقه إلى مكة ومنها، أو في بعض الغزوات)
[10] البخاري: أبواب المساجد، باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم (470).
[11] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: المرونة الفقهية لعمربن الخطاب رضي الله عنه
التعليقات
إرسال تعليقك